“إن الشر الأعظم هو محاولة بعض الناس أن يشعروك بأنك شخص لا تستحق” .. “فريد روجرز”.
“إنه يوم جيد في الحي، أيمكن أن تقضيه معي؟ أيمكن أن تصبح صديقي؟”، هكذا كان يقول الإعلامي الراحل “فريد روجرز” للأطفال يوميا لمدة 33 عاما، دون كلل أو ملل، من خلال برنامجه Mister Rogers’ Neighborhood.
عرض مؤخرا الفيلم الوثائقي الأمريكي Won’t You Be My Neighbor?، إخراج المخرج Morgan Neville، والذي يتناول حياة “روجرز” منذ فترة شبابه، وقراره بالعمل في التليفزيون كمقدم برامج أطفال، وإلى أن وافته المنية.
للأسف حرص المخرج Morgan Neville على توثيق جميع المعلومات والأحداث التي تخص “روجرز”، ولكنه أغفل الجانب الانساني والشخصي، الذي هو في الأساس جوهر شخصية “روجرز”، فقد لمع نجمه لأنه انسان يتحدث لانسان آخر من خلال شاشة التلفاز، وليس لأنه نجما يمتلك الإكس فاكتور، أو عامل النجاح الجذاب، الذي يجعله عندما يتحدث إلى جمهوره العريض، يشاهده، دون أن يستمع لأي كلمة يقولها.
نرشح لك: خدمة SVOD .. كيف تغلبت شركات الميديا العالمية على الخسائر في الأرباح؟
لقد بدأ الفيلم بقرار من “روجرز” بترك عمله في الكنيسة، فقد كان باق أيام قليلة، على أن يصبح قسا، ولكنه تراجع فور مشاهدته للتلفاز لأول مرة بالمنزل، حيث قال، “سيكون التلفاز آداة عظيمة إذا تم استخدامها جيدا، ويجب أن توجّه للأطفال، سأتحدث مع جميع الأطفال في أمريكا من خلال هذه الشاشة الصغيرة، إنهم يحتاجون لذلك”.
ولد “روجرز” في منزل ثري، ولذلك لم تقف أي عقبة أمام قراره لإنتاج برنامجه الخاص، فقد قام بتنفيذ كل شيء سريعا، وبالفعل تحدث مع الأطفال عن كل شيء من خلال برنامجه، فهو رفض البرامج التي كانت تمتليء بالبالونات التي تحتوي على الماء، ويلقيها المذيعين على وجوههم كي يضحك الأطفال، كما رفض برامج المهرجين الذين يقعون من فوق السلالم على رؤوسهم، حيث كان يقول، “يجب أن تعلم الطفل أن يكون له كرامة، لا أن تفقدها أمامه”.
“روجرز” هو أول من أدخل فن العرائس في برنامج على شاشة التلفاز، حيث ابتكر شخصية النمر “دانيال”، الذي أكد الجميع وخاصة زوجته Joanne Rogers، بأنه كان رمزا لشخصية “روجرز” الحقيقية.
تقول “جوان”، “أرى أن السبب وراء ابتكار “روجرز” لشخصية “دانيال”، هو أن يقول كل ما يجول بخاطره بحرية، وهو يتحدث بلسان هذه الدمية الصغيرة، فالانسان الناضج من الصعب أن يقول كل شيء يشعر به، خاصة أنني و”روجرز” تعلمنا ألاّ نقول ما نشعر به، بل يجب أن نردد دائما جملة، نحن بخير”.
تحدث “روجرز” مع الأطفال في موضوعات لم يتحدث عنها أحد من قبل، فهو كان يعلمهم ماهية الموت، كيف يستطيعون التعامل مع مشاعر الخذلان أو الفقد، كيف يواجهون الطلاق، حتى أنه شرح لهم معنى الاغتيال، وكيفية التعامل معه، فهو كان يحوّل الأخبار التي يقرأها يوميا إلى مادة بسيطة، يفهّمها للأطفال، ليعلمهم كيفية التعامل معها، حيث كان يقول “أكبر خطأ هو أن نجعل أطفالنا معزولين عمّا يحدث حولنا”.
كان “روجرز” شخصا مختلفا عن البقية، طفل كبير، يتحدث بلسان الأطفال ويعيش من أجلهم، وللأسف المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت، كان لا يتقبل الاختلافات، فهوجم “روجرز” هجوما ضاريا.
تعرض “روجرز” للسخرية من العديد من الفنانين مثل “جيم كاري”، “إيدي مورفي” وغيرهما، فقد عرض وقتها على شاشات التلفاز العديد من الاسكتشات التي سخرت منه بعنف، وصوّرته كشخص مختل، يخبيء وراء لطفه، رجلا مضطربا نفسيا.
قالت زوجة “روجرز” تعليقا على عرض الفيلم الوثائقي لإحدى الفيديوهات التي تصوّر “روجرز” كمصارع، يلكم طفل في حلبة القتال، “كان يرى “روجرز” كل ما يعرض عنه، وهذه الاسكتشات آذته نفسيا، حتى أنه قام بعمل فقرة في برنامجه، ليعلّم الأطفال من خلالها أن السخرية من شخص ما ليست شيئا جيدا، وأنه يحب أن يضحك مع الآخرين، وليس عليهم”.
عرض الفيلم أيضا لقاءا تليفزيونيا تم إجراءه مع “روجرز”، تم سؤاله فيه إذا ما كان مثليّ الجنس، فاندهش “روجرز” وعلت وجهه ملامح الانزعاج، قائلا بأدب، “لا، لست مثليّ الجنس”.
هاجمت الصحف “روجرز” وقالت أن لطفه الزائد لا يجعل منه رجلا، ولابد وأنه مثليّ الجنس، خاصة بعدما أعلن أحد العاملين ببرنامجه، مثليته الجنسية، وبالرغم من نفي الجميع هذا الأمر، إلا أن هذه الأخبار أخذت تتردد بشكل كبير في البرامج، كما طالب بعض المذيعين بأن يتحدث “روجرز” مثل الكبار، لأنه رجلا ناضجا وليس طفلا صغير.
ليس رجلا، مجرد طفل، مثلي الجنس، لم تكن فقط الصفات التي وصف بها الإعلام “فريد روجرز”، بل أيضا عندما كبر في العمر، هاجموه بضراوة قائلين أنه هدم المجتمع الأمريكي، لأنه أخبر الجيل الجديد من الشباب بأنهم مميزين، ليس عليهم العمل بكد من أجل الحصول على شيء، فالعالم سيحبهم كما هم، دون أن يبذلوا أي مجهود، وهذه ليست صفات المجتمع الأمريكي، فالمجتمع لن يصبح كل من فيه أطباء ومهندسين، بل يحتاجون أيضا لطبقة أخرى من الناس، لتخدمهم.
حاول “روجرز” الدفاع عن نفسه، قائلا أنه يريد تعليم الأطفال جميع المباديء التي لا يعلمها لهم آبائهم، يريد منحهم الحب غير المشروط، يمنعهم من التنمر، ويقل لهم أنهم بأمان.
ردد “روجرز” هذه العبارات حتى وافته المنية في عام 2003م، ولم يتركه المنتقدين حتى بعد وفاته، فقد تظاهر الناس أمام جنازته قائلين أنه لن يدخل الجنة لأنه تسامح مع المثليين وكان يعمل معهم.
بعدما عرض الفيلم الوثائقي Won’t You Be My Neighbor?، أهم الأحداث التي مر بها “فريد روجرز”، لماذا نحتاج الآن لـ “توم هانكس”؟
نشرت الصحف الأمريكية مؤخرا، صورة للفنان “توم هانكس”، وهو يرتدي ملابس شخصية الإعلامي الراحل “فريد روجرز”، حيث سيجسد شخصيته في فيلم لم يتم الاستقرار على اسمه بعد، وهو بطولة Matthew Rhys ، وWendy Makkena، وإخراج Marielle Heller.
تقول المخرجة Marielle Heller عن الفيلم، “من يريد أن يرى فيلم سيرة ذاتية فليرى فيلم Won’t You Be My Neighbor?، لأنني أقدم فيلما دراميا وليس وثائقيا”.
يركز فيلم “هانكس” الجديد على علاقة الصداقة التي ربطت بين “فريد روجرز”، والصحفي Tom Junod، وكيف أن حياة هذا الصحفي تغيرت رأسا على عقب بعد مقابلته لـ”روجرز”، لعمل لقاء صحفي معه لمجلة Esquire عام 1998م.
عندما شاهدت مقاطع من برنامج “روجرز” وجدته يقول، “شكرا لأنك أنت، أحبك لأنك أنت، فأنت صديقي المفضل المميز”، نعم نحن كبار في العمر، ولكننا مازلنا بحاجة إلى الأمان، إلى حب غير مشروط، وإلى الشعور بأن هناك شخص يحبنا برغم ما نحن عليه، يحبنا لأننا فقط أنفسنا، وهذا ما يعطيه لك “روجرز”، فقد قال أنه كان يعبر عن مخاوفه الشخصية في برنامجه، ليطمئن نفسه، وأعتقد أنه كان يطمئن كل أب وأم، وكل شخص ناضج أيضا.
أحببنا “روجرز” من المعلومات التي عرضت عنه في الفيلم الوثائقي، ولكننا نحتاج إلى الروح، إلى الدراما، نحتاج لأن ننظر إلى الشاشة، فنشعر بأن “روجرز” يوجه حديثه إلينا عندما يقول، “أنت لست خطأ لأنك مختلفا، أنت صديقي لأنك مميز”.
كما نتطلع لرؤية رد فعل “روجرز” على هذه الاتهامات التي كانت دوما تلاحقه، فهو لم يفعل شيئا سوى أنه كان يقدم برنامجا للأطفال لمدة 33 عاما، كيف واجه جميع هذه التحديات، وأكمل مسيرته بثبات، لم تغب ضحكته يوما عن الشاشة، لم يغضب يوما، بل كان كان يعبر عن كل شيء في أغان يعلّمها للأطفال، فقد غنى عن كيفية التحكم بالغضب، عن عدم التنمر، وعدم السخرية من الآخرين، حتى أنه قال عن نفسه في أغنية، “هل أنا خطأ؟ هل من حولي هم الصح؟ ماذا أفعل؟”.
ولهذا كله نحتاج إلى “توم هانكس”، فهو الوحيد القادر على أن يكون “فريد روجرز”، فالسينما هي أن يحدث هذا السحر، وكأن البطل الذي تشاهده قد ألقى بتعويذة، اخترقت الشاشة وسكنت قلبك، فتشعر بأنك تشبهه، بأنه يحدثك أنت وحدك، وبأنك في حضرة الإلهام .. نحتاج لأن نقابل “روجرز” لمرة أخيرة يا “هانكس”، نحتاج لأن يساعدنا على إكمال طريقنا بضحكة برغم التحديات، ننتظر فيلمك بفارغ الصبر، فأرجوك أجعله فيلما مصنوعا بشغف.