من الصعب أن أجد طرفًا لخيطٍ يقودني نحو شخصية واحدة مُبهرة في الصغر، ‘‘مثل أعلى أو قدوة’’ كما هو الحال لدى الكثيرين.
ربما كان الإبهار وقتها ممثلًا في المواقف أكثر من الأشخاص، كان يلفت انتباهي أشياءً مختلفة عند بعض الأشخاص حولي، خليط من الظواهر والسلوكيات.
مُعلمة المرحلة الإبتدائية -وقتها كانت تلقب بأبلة- “الأبلة أم كُلثُوم”، كانت أنيقة وصاحبة طلة بهية وشخصية قوية، كان أقصر طريق لكسب محبتها هو أن تمتلك قدرًا كافيًا من التهذيب والنظافة الشخصيّة.
أحببت شجاعة الغُلام الذي ذهب لمعسكرات الجيش المصري، لكي ينضم لجنود مصر البواسل وهو لا يزال في الرابعة عشر من عمره، وذلك في قصة تحمل عنوان “وطنيّة غُلام مصري”، أهدتني إياها شقيقتي الكُبرى من معرض الكتاب.
في المرحلة الثانوية أحببت أساتذتي عبد المنعم إبراهيم، ومحمد الصياد، الأول كان متحمسًا على الدوام في شرح الدروس، لا زلت أتذكر حماسته وتفانيه وحركة يديه باستمرار، كان مولعًا بالتاريخ وانتقل إليّ هذا الولع، وتخصصت في القسم ذاته بكلية التربية بعدها بشهور. الثاني كان يتحدث دائمًا عن قيمة الضمير الإنساني وغرسه في البشر، قبل أن يستفيض في شرح “الضمائر” في اللغة، فكان عظيم الأثر قولًا وفعلًا.
نرشح لك: ولاء مطاوع تكتب: الأستاذة ماما
في بداية الطريق قبل أن اتجه للكتابة، وفي المرحلة الثانوية نفسها بدأت مشوار القراءة عن طريق الدكتور مصطفى محمود، تعبير “الإبهار” هنا ينطبق على تلك الحالة، كانت كتابات الرجل هي المطلوب وأكثر، يتحدث عن المشكلات الاجتماعية، كانت عناوين الكُتُب جذابة وكافية لأدفع كل ما في جيبي في هدوء وسلام، كانت تحمل عناوين مثل (سقوط اليسار، القرآن كائن حي، السؤال الحائر، عصر القرود، الماركسية والإسلام، الغد المشتعل،…) وغيرها الكثير؛ كافية بضخ كميات أكبر من الأدرينالين وشراء أكبر قدر ممكن منها، حتى التهمها بعد عودتي للبيت؛ تزامن ذلك مع عرض حلقات للدكتور على صفحات جريدة ‘‘المصري اليوم’’ فتعلقت به أكثر وتمنيت لقاءه، ولكن للأسف انتقل إلى رحاب الله قبل أن تتحقق الأمنية.
من خلاله توافد على قلبي وعقلي الكثير من الأبطال، أعتقد أنيّ قرأت عشرات السير الذاتية لأهل السياسة والفن والمجتمع، كان الإبهار لديهم جميعًا، مثل (شارلي شابلن، نجيب الريحاني، سليمان نجيب، سعد زغلول، طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، خيري شلبي، يوسف إدريس، علاء الديب، أحمد خالد توفيق،…) وعشرات السير الأُخرى.
كل واحدٍ منهم كان له أثر وبصمة، كل واحدٍ كان له عالم مختلف أعيش معه فترة قراءة سيرته الذاتية، وكفاحه ضد الظروف. لكل شخصٍ منهم كلمته في حقل التفاؤل يوم أن كنت أتطلع لموسم الحصاد، كل قصة وراءها رصاصة كانت بالفعل رصاصة الرحمة، ومن نجا منهم تشكلت بعدها حياته، وحياتي من بعده.
لا أظن أنني اقتربت أو التصقت بأحد منهم كبطل خارق طوال الوقت، لكنهم جميعًا كانوا أبطالا للحظات معينة قدموا فيها السلوى أو الفكرة؛ أو كانوا جميعًا الحل وقت أن تاهت كل الحلول في لحظة يأس مخيفة.
نرشح لك: محمد وليد بركات يكتب: مقام الأستاذية
أتذكر دائمًا أن دكتور طه حسين، كان يتكفل في كثير من الأحوال بإعادة ضبط النفسية ورفع معدل قدرات كفاءة الأحلام بعد إغفاءة سريعة، تتعامد سيرته الذاتية لتقع على عيني في أوقاتٍ حالكة سواء في مجلة أو جريدة أو كتاب لم يكن في الخطة من الأساس، ولكنه في الأخير يظهر كبطل خارق كُتب عليه محاربة الظروف الصعبة منذ ولادته وحتى وفاته، بطلًا معنيًا بدحر كل الحُجج الوهمية لليأس وقهر كل أعداء الباطل في سبيل الحق.
نفس الأمر لدى الزعيم سعد زغلول، الذي قاد مرحلة حاسمة في التاريخ المصري يوم أن كان في الستين في عمره، ولم يقل أبدًا ،مفيش فايدة” في الشأن العام، لكنه قالها قبل وفاته بأيام وهو على فراش المرض.
ربما لن تجد بصمة واضحة ومحددة لكل هؤلاء، ربما لأنها أكبر من ذلك، أكبر من أن تكون محددة بشكل ونمط، لكنها أكثر تأثيرًا وأوسع نطاقًا، هي السحابة المصاحبة لي طوال الرحلة، حماية ومنعة وأمانًا ومحبة وأفكار ومواقف لا تُنسى، ومهما غابت تحضر في اللحظة المناسبة، مؤكدة على أن ‘‘العطر مهما غاب تبقى رائحته’’.
أبرز 7 تصريحات مثيرة للجدل للكاتب يوسف زيدان