”مات الذين كانوا هنا وملأوا الحياة عليّ، غادروا دفعة واحدة لدرجة أني أشعر أحيانا أنهم تخلوا عني بقصدية مسبقة أو أن الرب يعاقبني… مات أخي صغيرا ثم أمي وأبي وتبعه الرجل الحالم والعاشق دوما الذي عوض أخي الميت، جبران”.. كلمات خطتها الأديبة اللبنانية مي زيادة رثاء لأحب الناس إلى قلبها، وربما رثاء لنفسها أيضا، فقد كانت تعلم جيدا بأن الحياة بعد رحيلهم ستكون أصعب مما كانت.
مي زيادة أو “ماري إلياس زيادة”، التي تمر ذكرى رحيلها الـ 77 اليوم، صاحبة صالون “الآنسة مي” الثقافي، التي كانت تقيمه في منزلها بمنطقة وسط البلد وارتاده كبار الأدباء وزعماء الفكر العربي مثل طه حسين، وأحمد لطفي السيد، وعباس العقاد، وخليل مطران، وأحمد شوقي ومصطفى صادق الرافعي. هي الفتاة المثقفة التي اشتهرت بقصة حبها الأسطورية مع الشاعر جبران خليل جبران، طوال 20 عاما يتبادلون الرسائل، و لم يلتقيا أبدا.
نرشح لك: الأحد..حفل توقيع “أحلام شمس” لـ يحيى الجمال
أصبحت مي، التي ملأت الدنيا أدبا وحبا، أكثر عزلة واكتئابا بعد موت والدتها ثم حبيبها جبران خليل جبران، فقد كانت تلك المحطة الأخيرة في حياة الكاتبة اللبنانية، وأكثرها مأساوية، حيث انتهى بها الحال في مستشفى الأمراض العقلية. وبالرغم من حياتها المزدحمة بالمعارف والأصدقاء خلال فترة شبابها، إلا أنها ماتت وحيدة.
مي زيادة في مستشفى المجانين
عام 1936، قبل رحيل مي زيادة بخمس سنوات، كان قد ضاق بها الحال في القاهرة، بعد مضايقات من أولاد عمها وسرقتهم لها، فطلبت من أحد أقاربها في لبنان أن يأتي إلى مصر كي يأخذها لتقضي فترة نقاهة في بيروت وترتاح بعض الوقت، وبالفعل أتى قريبها جوزيف زيادة ليأخذها من القاهرة، وقبل أن يسافرا جعلها توقع على أوراق تنازلها له عن كل شئ تملكه، دون أن تدري حقيقة ما وقعت عليه. وبعد أن غادرا ووصلا بيروت طلبت مي زيارة قبر والديها ولكن بدلا من أن يصطحبها إلى هناك، أخذها ووضعها بمستشفى الأمراض العقلية، والذي كان يسمى بالـ “عصفورية”.
زوجة الروائي الكبير #واسيني_الأعرج تروي كواليس كتابة روايته الجديدة عن #مي_زيادة
300 يوم في الجحيم
قضت مي زيادة أياما عصيبة، يحكي عنها الروائي الجزائري واسيني الأعرج، في كتابه “ليالي إيزيس كوبيا.. ثلثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية”، الصادر حديثا عن دار الآداب للنشر، والذي استطاع أن يعثر على أوراق ايزيس كوبيا (اسم مي زيادة المستعار)، التي كتبتها أثناء إقامتها في العصفورية.
نرشح لك: أشرف العشماوي يكشف كواليس التحقيق مع المتهمين بقتل نجيب محفوظ
كانت تحاول مي إقناع من حولها بأنها ليست مجنونة ولكن محاولتها كانت تقابل دائما بجملة “لا مجنون يعترف بجنونه”، وحاولت كثيرا إقناع أقاربها بأن يخرجوها وتوسلت إليهم ولكن أطماعهم وجشعهم كانا أكبر من أن يطلقوا سراحها وكأنه لم يكفيهم ما كانت تعانيه في حياتها.
براءة من الجنون
ويقول واسيني الأعرج في الكتاب، إن الذي أنقذ مي من تهمة الجنون كان محامي وكله أحد أصدقائها، حيث طلب منها أن تلقي محاضرة للطلبة بالجامعة الأمريكية، ليثبت من خلالها أنها ما زالت تحتفظ بعقلها، وحاضرت مي بالفعل وبهرت الحاضرين. وبعدها تم إخراجها من المستشفى بعد حوالي تسعة أشهر قضتهم بين حوائط المشفى الباردة.
بعدما عانت مي من تآمر عائلتها وتخلي أصدقائها عنها في محنتها، خرجت من المستشفى، وقررت الرجوع مرة أخرى إلى القاهرة، ولكن بحال أسوء مما تركتها، وأدت تلك الحالة النفسية السيئة إلى وفاتها بمستشفى المعادي عام 1941 عن عمر ناهز 55 عاماً.
الأيام الأخيرة
يحكي الأيام الأخيرة بالتفصيل في حياة مي، مقال نشرته مجلة “نصف الدنيا”، شهر نوفمبر 2017، بعنوان “نصف الدنيا تكشف أسرار «جنون» مى زيادة وحياتها الخاصة”، فيقول نبيل سيف في مقاله، إن بواب العمارة التي تقيم فيها مي لاحظ عدم ظهورها لعدة أيام على عكس عادتها، وبمجرد أن صعد شقتها بالدور الثالث وجد الصحف اليومية ملقاة أمام شقتها لم تأخذهم، ما يدل على أنها لم تفتح باب شقتها، فاتصل البواب بصديقها ومحاميها مصطفى مرعي، والذي حضر سريعا بصحبة زوجته.
طرقوا جميعهم الباب بقوة ولكن دون رد، فقرروا كسر باب الشقة. وجدوا الأتربة تملأ المكان، ومي زيادة ملقاة على سريرها في حالة غيبوبة تقريبا، وحولها عدد كبير من الأدوية، ومن حسن حظهم أن هناك طبيبا يسكن في العمارة، حضر وأخبرهم بأنها تعاني هبوطا شديدا في ضغط الدم ويجب نقلها إلى المستشفى فورا.
دعوني أموت
وصلوا جميعهم إلى مستشفى المعادي، وحاول أطباؤها معالجتها وتغذيتها بالمقويات، ولكنها كانت ترفض تماما، ويذكر المقال أنها كلما عاد إليها وعيها تقول “دعوني أموت، أرجوكم دعوني أرتاح”. وماتت مي بالفعل بعد عدة أيام، ظهيرة يوم 17 أكتوبر، تاركة ورائها حياة حافلة مليئة بالآلام والوحدة والخذلان.
صلوا لأجلها
دُفنت مي زيادة في مقابر الطائفة المارونية بمصر القديمة، ولم يمش في جنازتها إلا بضع أنفار فقط، حتى وصلوا إلى مكان إقامتها الأخير المكتوب عليه “هنا ترقد نابغة الشرق، زعيمة أديبات العرب، المثل الأعلى للآداب، المرحومة مي زيادة، دفنت في 20 أكتوبر 1941، صلوا لأجلها”.
أبرز 7 تصريحات مثيرة للجدل للكاتب يوسف زيدان