نرمين حلمي
(1)
سؤال واحد ظل يطاردني منذ طفولتي، وقتما شاهدت حوارًا تلفزيونيًا أو قرأت حوارًا صحفيًا، يتحدث فيه شخصية معروفة عن قدوته في الحياة، كنت أتعجب من سهولة الرد واجتياز مرحلة الإجابة بمنتهى السهولة، بمجرد اختيار اسم واحد!
مرت السنون وأيقنت أن لكل منا حدوتة تتشكل مع لحظة ميلاده، مَن تقابلهم هم من يكتبون كلماتها، منهم مَن يساهم في كتابة بداية السطر لك من أوله، ومنهم مَن يساعدك في صياغة الحبكة ببراعة، ومنهم مَن يساهم بوجوده في إظهار سطور مخفية عن عينيك؛ نظرًا لصغر سنك أو قلة خبرتك، ومنهم مَن يعطي لك القلم ويرحل فتضطر أن تكمله بمفردك.
لا تستطيع أن تعيش بمفردك، ولا تستطيع أيضًا أن تختذل مَن تتأثر بهم في شخص واحد، ولكن هناك مجموعة من “الأساتذة”، كاد الطريق ألا يولد بدونهم، زرعوا معانِ مختلفة فور وجودهم، وبرهنوا على قاعدة واحدة؛ متى يظهر الضوء.. يلمع الطريق، ومتى تحضر الإنسانية.. ينطق القلب، ومتى تسقى الأرض.. تزدهر الورود، ومتى يصدق الفعل.. تدوم المسيرة.
نرشح لك: محمد عبد الرحمن يكتب: الأستاذ محمود عوض
(2)
وضع والدي الأستاذ “حاتم حلمي” رحمه الله ورزقه خيرات جناته، الخط الأول في الحدوتة، وظلً يمد فيه دون أن يدري، بات سببًا رئيسيًا لما أصبحت عليه الاَن، شاركني أوائل الأفعال المحببة للنفس، والتي تضع مذاقًا خاصًا لحياتنا؛ أول مرة مشاهدة لفيلم سينمائي أتذكره حتى الاَن، كان معه في فيلم “سنة أولى نصب”، وأنا لم أتجاوز الـ 9 أعوام. وأول عرض مسرحي “طرائيعو” لـ محمد هنيدي، وسط أجواء من الاحتفاء بالمسرح وجماله وقتذاك.
مَن كانت تشاكسه فور قراءته للجريدة، باتت هي مَن تقرأها يوميًا وتحاول سبقها، الصبر والتفاني والتفاؤل، تقاسمناهم معًا، قبل ذهابه للمحكمة ومرافعته للقضايا، تعودت أن أكتب له جوابًا كل يوم، على ورقة بيضاء مِن كشكول صغير، بخط طفولي غريب، لا يهتم بتنسيق الكلمات والجمل، قدر ما كان يهتم بصحبته أثناء مسيرة عمله حتى يعود مجددًا للمنزل.
تطور الأمر وبات يسألني عما رأيته في الدراما التلفزيونية، يطلب مني أن أحكي ما رأيته بطريقتي، وألا أترك شيئًا، حتى صار الأمر في دمي، وأدمنت رواية الحدوتة بحدوتة، فصار ما أكتبه في الجواب قصة لها بداية ووسط ونهاية، وضع هو بدايتها ورحل قبل أن يرى ما ستصل له.
شاركته حدوتي وأكملت مسيرتها من بعده، واحدة فقط، إن لم تكن بجانبي، كان الطريق سيظل قاتمًا ولا يظهر أبدًا، أمي الأستاذة “حنان المصري”، تعلمت منها الذكاء والجدية والحكمة في العمل، والصراحة في القول، والثقة في النفس في أسود اللحظات يأسًا، والابتعاد عن الرمادية في الأشياء، إما أن تكون مع الصح أو الخطأ والفارق كبير وواضح لمن يريد أن يرى، والتضحية دون انتظار المقابل، وفعل الخير كلما وجدت لذلك سبيلاً، واللمسة الفنية ومدى ارتباط المزيكا بالنفس، وقرب القلب للرب بالقراَن والصلاة، والمحافظة على وجود الله في الفعل قبل تنفيذه.
نرشح لك: فاطمة خير تكتب: أمينة النقاش ونبيل زكي.. شكرا
يصعب أن أختذل ما تبنيه في كلمات، ويصعب أن أوضح ما تقدمه في سطور، فإن لم تكن أمي بجانبي وتساعدني على صياغة حبكة حدوتة حياتي بحرفية، لكنت ضللت الطريق حقًا.
(3)
أمًا مَن ساهم في إظهار السطور لأول الطريق العملي، فهم كثير، بالطبع تأثرت بالكثير من أساتذتي في المدرسة والجامعة، وأدين بالفضل لكل مَن علمني حرفًا أو أضاء أمامي بريقًا من طيف الإنسانية، ولكن هناك مَن أثروا فيه بدرجة كبيرة، جعلتني أتذكرهم حينما سُئلت عن الأساتذة في حياتي للكتابة عنهم في هذا المقال، أولهم الدكتورة حنان بدر، أستاذتي في كلية الإعلام جامعة القاهرة، والتي درست لي مادة “التربية الإعلامية Media Literacy”. والتي كانت تعتمد على تحليل الأخبار والإعلانات، وعدم الاكتفاء بإلقاء الضوء على الخبر، بل بالقيام بتحليله أيضًا، كانت تحرص دومًا على مناقشتنا ودفعنا نحو البحث والسعي الحقيقي، واختيار الأفكار بجدية، والبعد عن التقليد الأعمى، ساعدت على نمو مهارات الفكر والابتكار والتحليل لدينا، بكل بساطة ورقي في المعاملة، كانت وما زالت أكبر مثل على الدكتور الذي لا يكتفي بحشو المادة العلمية بل تحليلها وفهمها.
(4)
شخص واحد مرً على سطور حدوتي، وترك بعض الكلمات التي تشير للتواضع والإنسانية التي لا أنساها أبدًا، قرأت له مرات عديدة وقابلته مرة واحدة، لم يعلم عني وقتها سوى أنني فتاة جامعية تريد أن تنهي دراستها الجامعية بشئ مختلف، لا أظنه يتذكر اسمي، كنت أراه في كل يوم اتردد فيه بالمصادفة على المكان الذي اعتاد الجلوس فيه لفترات طويلة، يستمتع فيه بقراءة الجريدة والمؤلفات الأدبية قبل كتابته لقصته الجديدة.
“ممكن تشارك معانا في فيلم وثائقي عن جمال فن وثقافة وسط البلد وزمن الستينيات والسبعينيات؟”.. بترحاب كبير وابتسامة صافية، أومأ إلينا الأستاذ الأديب مكاوي سعيد رأسه، حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، وهو يجلس على قهوة “زهرة البستان” في وسط البلد. قدم كل وسائل الدعم الممكنة مثلما كان إنسانيًا بالفطرة، وعاشقًا لوسط البلد بطبعه.
على الرغم من مكانته المرموقة وشهرته الكبيرة إلا أنه لم يطلب منا مقابل مادي للتصوير مثلما فعل كُتاب اَخرون، تجاوز طلبهم وقتذاك الـ 6000 جنيها مقابل مشاركتهم معنا في الفيلم، بل إنه رحب في أي وقت وأي يوم، تغيرت زاوية مشروع تخرجنا وتغيروا ضيوفنا في الفيلم، وانشغلنا به ولم أستطع مقابلته مرة أخرى لانشغالي بالتخرج، إلا أنني كنت أحلم بمقابلته مجددًا؛ للتحدث معه في أمور الكتابة الأدبية ومدى حبه وارتباطه بالمكان الذي يكتب عنه كثيرًا في أعماله، إلا إنه لم يحالفني الحظ في ذلك، وتوفى في ديسمبر 2017، وتعلمت من يومها ألا يجب أن نترك مَن نقدرهم ونحبهم دون أن نعبر عن ذلك الحب في وقته، ربما يسبقك القدر ولا يمنحك متعة المصارحة فيما بعد.
(5)
أما عن سطور الصحافة فلها النصيب الأكبر في كل شئ، تأثرت كثيرًا بالدروس الصحفية التي كان ينشرها دكتور “محمد سعيد محفوظ” على قناته الخاصة على “يوتيوب”، والتي كانت تسعى لتوصيل معنى الخبر ومكوناته والفرق بينه وبين المقالات وهكذا، وكنت استفيد جدًا من مقالات تطوير المهارات الإعلامية التي كانت تقدم عبر صفحة السوشيال ميديا “فيس بوك” الخاصة بمؤسسته “ميدياتوبيا”، الداعمة لشباب الإعلامين، داومت على متابعة فاعلياتهم حتى جاءت الورشة التي كتبت لي أهم سطر في عالم الصحافة، مع الأستاذ محمد عبد الرحمن.
وهي من أفضل الأشياء التي حدثت لي، بداية مِن أواخر 2017 وحتى يومنا هذا، فمَن يتعلم في مدرسة الأستاذ “محمد عبد الرحمن” الصحفية، يدرك معنى الاحترافية في المهنة جيدًا، شهادتي مجروحة لعملي في موقع “إعلام دوت أورج”، ولكن يصعب أن يمر المقال دون الإشارة بالتقدير والمحبة والاحترام له.
أضاف لي الكثير بتوجيهاته الصحفية، تعلمت مِن مقالاته النقدية الفنية أو تغطياته الصحفية الكثير، كذلك عنصر التميز في مسابقة الزمن من أجل الانفراد بالأخبار الدقيقة والصحيحة، وكيف تحرز هدفًا “بالحصري” من وقت لاَخر، وأن تعمل بمهنية في المقام الأول، وألا تقدم سوى الجديد أو المهم، كذلك تعلمت منه احترام الاَراء والتواضع في المعاملة؛ وأن تخطو بحكمة وشطارة نحو مفاتيح كتابة الحدوتة “القصة” الصحفية ببساطة.