من ألقى بنا فى هذا الماخور الطافح؟
لن ترفض توصيفي لتركة الإعلام بأنها ثقيلة بالطبع، لكننى انحزت إلى توصيف ربما يكون أكثر دقة وشمولية أيضًا، فالتركة الإعلامية التى تحملها الدولة المصرية على ظهرها ليست ثقيلة فقط، ولكنها منفلتة أيضًا، وأعتقد أن هذا الانفلات كان وراء بذل جهد مضاعف – تبدد كثير منه – فى محاولة إعادة الثور الهائج إلى حدوده المهنية والقانونية أيضًا.
بعد 25 يناير 2011 كان الوجع الملح على الجميع، هو الانفلات الأمنى، لكن دون أن يدرك الجميع أنه كان هناك وجعًا أكبر وأخطر وأكثر عمقًا وهو الانفلات الإعلامى.
الانفلات الأمنى كانت تجلياته واضحة جدًا، ظاهرة للعيان لا يمكن أن يجهلها أو يتجاهلها أحد. لكن الانفلات الإعلامى تسرب بنعومة، وعلى أجنحة أصحاب رؤوس أموال دخلوا خفية إلى المشهد، وبتخطيط وتنفيذ من إعلاميين، خدعوا الرأى العام بأنهم أرباب المهنة وحماتها، رغم أنهم لم يكونوا أكثر من سماسرة إعلام، ربحوا منه الملايين، ولم يكن مهمًا لهم بعد ذلك ما الذى سيخلفون وراءهم من آثار مدمرة.
الآن وبعد محاولات كثيرة كانت الدولة وراءها أحيانًا بشكل مباشر وأحيانًا أخرى – وهى الأكثر – بشكل غير مباشر، انحسرت موجات الانفلات، لكن تظل أمامنا أزمة عاتية تحيط بساحة الإعلام، الذى من المفروض أن يكون أداة من أدوات الحرب فى معارك مصر الكبرى على الإرهاب ومن أجل التنمية، فإذا به يتحول إلى معول هدم وأداة تعويق.
لا أحد يثق فى الإعلام الآن على الإطلاق.
حاول أن تفرد أمامك خريطة الرأى العام المصرى، فلن تجد أحدا يهتم بما يقوله الإعلام، اللهم من باب النقد وتوجيه الاتهامات إليه.
الدولة التى تباشر معركتها من أجل البقاء والبناء، لا ترى من الإعلام مساندة، بل على العكس تعتبره أحد الأدوات التى تعطلها، فهو لا يقوم بواجبه كما ينبغى فى نشر الوعى بخطورة هذه المعارك، ولا يستطيع الرد على حملات التشكيك فى كل ما تقوم به الدولة صغيرًا كان أو كبيرًا.
الجمهور العام الذى يتابع الإعلام من باب رغبته الملحة فى معرفة ما يحدث، وجد نفسه أمام أدوات صماء بكماء، غير قاردة على رى ظمأه للمعرفة، أو إقناعه بما يحدث على الأرض، فقط دعاية فجة إنشائية تفتقد إلى العمق، أو المعرفة بفلسفة نظام الحكم وما يقوم به من مشروعات.
جماعات المصالح فى مصر لا ترى فى الإعلام إلا أداة ابتزاز، بالنسبة لهم يقفون أمام من يرفعون شعار “ادفع لتحصل على البركة”، وإن لم تفعل فأنت مستهدف حتى النهاية، وليس أمامك إلا أن تتجاوب إلى أبعد مدى، وإلا فلن تجد دعمًا.
المثقفون يعيبون على الإعلام تحوله إلى أداة تغييب متعمد عن الوعى، فهو بالنسبة لهم يعمد إلى إشغال الناس عن قضاياهم الكبرى، ثم أنه لا يلعب أى دور صغيرا كان أو كبيرا فى معركة الوعى الكبرى، التى لا تقل أهمية عن معركة الحرب على الإرهاب أو معركة البناء والتنمية، ولذلك طبيعيا أن يتصدر المشهد عديمو الموهبة ومنحطو الثقافة.
أساتذة الإعلام يتعاملون مع ما يحدث أمامهم، سواء على مستوى الصحافة المكتوبة ورقيا وإلكترونيًا أو الإعلام المرئى والمسموع على أنه مجرد عبث، لا مهنية فيه، ولا أثر لأى قواعد يمكن من خلالها أن يحقق الإعلام هدفه فى تنوير المجتمع وتبصيره، ووضعه للناس على الطريق الصحيح، للمساهمة فى بناء بلدهم وحمايتها.
رجال القانون يتعاملون مع الإعلام على أنه “مسجل خطر” يقترف كل الخطايا والآثام التى تعرفها كتب القانون وتنص عليها، وتلك التى لا تعرفها أو تتطرق إليها فى أدبياتها، بالنسبة لهم تجاوز الإعلام كل الخطوط والحدود، وارتكب من الموبقات ما يجعله متهما، ولا يفيده أن يترافع عنه كل محامو الأرض مجتمعين.
فئات المجتمع المهنية من أطباء ومحامين ومهندسين ومعلمين وغيرهم لا يرون فى الإعلام خيرًا مطلقًا، فهو بالنسبة لهم منحاز طول الوقت، يحاول أن يسترضى الجمهور على حسابهم، فلا يتصدى لقضاياهم بجدية، بل يناقش ما يعانون منه من على السطح، دون الدخول فى صلب القضايا وبؤرتها.
الحقوقيون وأصحاب منظمات حقوق الإنسان لا يرون فى الاعلام إلا أداة من أدوات انتهاك حقوق الإنسان، فهو لا يدافع عن المظلومين، بل يعين عليهم، ويهدر حقوقهم، وليته يفعل ذلك عن فهم، بل يمارسه ممارسة الدبة التى تقتل صاحبها دون أن تعانى من أى تأنيب ضمير، يمكن فى لحظة أن يعيدها مرة أخرى إلى جادة الطريق.
الخريطة الآن مهترئة إذن، ولا يمكن لأحد أن يدافع عن مهنة تخلت هى عن التمسك بحقها فى الحياة، فالجميع يضعها فى خانة الاتهام، وهى لا تكلف نفسها بإصلاح ما فسد، بل تتماهى مع الجميع حتى يرضى الجميع، وهو ما أفسد الحالة الإعلامية فى مصر تمامًا.
العدل يقول أنه كى نحاسب الإعلام على ما تقترفه يداه، لابد أن نضع بين قوسين المهمة المطلوبة منه، وهى بالمناسبة مهمة ليست مطلقة، بل نسبية، فدور الإعلام فى أى مجتمع، يتغير بتغير الظروف والأحوال والسياق الذى يعيش فيه أى مجتمع.
وهنا يكون من حقك أن تسأل: وهل حدد أحد للإعلام مهمته التى يجب أن يقوم بها فى مصر بعد 30 يونيو تحديدا؟ ثم على أساس هذه المهمة يمكن أن نحاسبه، ونضعه أمام نفسه فى المرآة، ونقول له: انظر.. هذا ووجهك القبيح الذى أورثته لنفسك، وعملت باجتهاد على تشكيله، وعليه فلا تلوم إلا نفسك.
نرشح لك: محمد الباز يكتب: تركة الإعلام المنفلتة
هنا لا بد أن أعود إلى أول اجتماع عقده الرئيس عبد الفتاح السيسى مع الإعلاميين فى قصر الاتحادية، وكان ذلك الاجتماع فى الأيام الأولى من ولايته الأولى فى الحكم.
قبل أن يدخل الإعلاميون إلى الاجتماع مع الرئيس وفى الصالة لمجاورة لقاعة الاجتماعات الرئاسية، تبادل بعضهم النقاش حول القضية التى كانت المناقشة حولها حادة جدا، تجذب لها مؤيدين وتصنف لها معارضين، وهى قضية هل يوجد عذاب قبر أم لا؟
كان الكاتب إبراهيم عيسى هو من أثار هذه القضية وتحمس لها فى أحد برامجه.
رأى بعض الإعلاميين أن هذه قضية ما يجب أن تثار الآن، لكن إبراهيم رأى أن وقتها مناسب تماما، لأن محاربة الفكر المتطرف يجب أن تبدأ بنسف كل الأساطيرالتى تحملها كتب التراث، ورفض أى محاولات لإثناءه عن حملته أو لنقل عن غيه.
الغريب أن الرئيس عندما اجتمع مع الإعلاميين بعد دقائق من هذا الحوار الجانبى، أشار إلى هذه القضية وقال أنه ليس وقتها لا هى ولا مثلها من القضايا، لأنها فى الأساس خلافية، ولا يملك أحد قولا فصلا فيها، والغريب أن إبراهيم عيسى الذى كان متحمسا جدا لوجهة نظر، أخذ يهز رأسه علامة الموافقة على ما يقوله الرئيس، وكأنه لم يكن رافضا منذ قليل لأى نقاش حول مسلكه الإعلامى.
قبل أن يتحدث الرئيس حدث موقف كان محرجا للجميع، لقد أراد بعض الإعلاميين الذين لا يلاقون قبولا كبيرًا لدى الرأى العام أن يجلسوا إلى جوار المقعد الذى سيجلس عليه الرئيس أو على الأقل قريبًا منه، وكانت غايتهم من ذلك أن يقولوا للناس أنهم مقربون من الرئيس، وإلا لما سمح لهم من الجلوس إلى جواره أو على مقربة منه.
تصرف مساعدو الرئيس بحكمة، وتحدثوا مع هؤلاء الإعلاميين – يعرفون أنفسهم جيدا – وأقنعوهم أن الجلوس فى القاعة مرتب مسبقا، ولا داعى للخروج على هذا الترتيب.
استمع الرئيس إلى الإعلاميين الذين حاول بعضهم أن يبدو متحمسًا وهو يتحدث، للدرجة التى اعتبر معها البعض أن هناك من كان يزايد على موقف الرئيس فى قضية الحرب على الإرهاب وحق الشهداء، وكانت هذه مفارقة أعتقد أنها لم تمر مرور الكرام.
بعد أن استمع الرئيس إلى كلام الإعلاميين، أدرك أنه أمام مأساة كاملة، فهؤلاء لا يعرفون ما يجب عليهم القيام به، لا يرتبون أولوياتهم، ولا يضعون فى اعتبارهم أن المهمة بعد ثورة 30 يونيو كبيرة.
دون أن يضيع الرئيس وقته أو وقت هؤلاء الذين اجتمع بهم، قال لهم كلمة فاصلة أعتقد أنها وزعت المهام بشكل دقيق وصحيح أيضا، شرح الرئيس التحديات التى تواجهها مصر على المستوى الدولى وعلى المستوى الداخلى، وقبل أن يلتقط أنفاسه، قال للجميع: اتركوا مهمة تحديات الخارج علىّ أنا.. كل ما أريده منكم أن تتصدوا أنتم لتحديات الداخل، وكان يقصد أن يهتم الإعلام بالجبهة الداخلية، يشرح للناس حقائق ما يجرى على الأرض حتى يصبحوا يدا واحدة فى مواجهة الخطر الآتى.
على مدار ما يقرب من خمس سنوات نفذ الرئيس عبد الفتاح ما قسمه لنفسه من مهام، تعامل مع الخارج باحترافية شديدة، ونظرة منصفة واحدة ستقودنا إلى أن كثيرا من تحديات الخارج تحطمت على صخرة الإرادة المصرية التى عملت من اللحظة الأولى على تذويب الجلطات التى اعترضت طريق تدفق الدماء فى الشرايين التى تربط مصر بالعالم لخارجى.
تحمل الرئيس ما لا يتحمله بشر، أحاطوه بعقبات وأزمات ومشكلات متعاقبة وحادة، لكنه كان يتعامل مع كل ذلك باحترافية شديدة، وعندما كان ينظر إلى المهمة التى قسمها للإعلام فى اجتماعه الأول برموزه، لا يجد سندا ولا معينا، بل كان الإعلام عبئا على الرئيس، ولن أذكر بما جرى فى قضية مقتل الباحث الإيطالى جوليو ريجينى.
لقد استبق الإعلام المصرى الأحداث، وألصق التهمة بالأجهزة الأمنية المصرية، اعتمادا على مصادر ساقت ما تريده عبر شبكات التواصل الاجتماعى، وهو ما استعانت به وسائل الاعلام الايطالية وأعادت تصديره إلينا مرة أخرى، وكانت الحجة الجاهزة عندهم أن الاعلام المصرى هو الذى يقول، وأعتقد أن معالجتنا لهذه القضية نموذج لتهافت الإعلام وعدم وعيه وإدراكه، وهذا اعتراف لا أجد فى نفسى حرجا من إثباته وتوثيقه، على الأقل من باب التطهير الذى هو بداية الطريق للإنقاذ.
واقعة أخرى لا تقل خطورة ولا أهمية، فعندما جرت معركة الشيخ زويد فى أول يوليو 2015، تسابقت المواقع الإلكترونية والصحف إلى نقل ما جرى عن مصادر تتحدث بلسان داعش، وكانت كل المعلومات تشير إلى انتصار التنظيم الإرهابى، وكان هذا طبيعيا، فداعش كان ينتصر الإعلام.
أذكر أننى كنت أباشر عملى فى صالة تحرير الجريدة التى كنت أصدرها، وجاءنى رئيس قسم الإسلام السياسى فى الجريدة، حاملا بيانا أصدره تنظيم داعش، ويريد أن نعتمد عليه فى إعداد تقريرنا عما جرى، فصرخت يه، وقلت له: عندما يكون الجيش المصرى فى حرب، لا يجب أن نعتمد فى معالجاتنا على مصادر لأعداءه، وعلينا أن ننتظر ما سيقوله الجيش.
كانت المعالجة منفلتة تماما، لا وعى فيها لحدود المعركة ولا إدراك لخطورتها، وكان طبيعيا أن تتدخل الدولة، ويصدر القانون الذى نص على أن تعتمد الصحف والمواقع والقنوات على البيانات الصادرة من الجهات الرسمية عن المعارك مع الجهات الإرهابية، ومن يخالف ذلك يتعرض لعقوبة قاسية.
كان هذا القانون أول بوادرمحاولة لم الإعلام والوقوف أمام انفلاته وعدم مهنيته، وأقصد بالمهنية هنا الاحتراف الذى يفتقده الإعلام المصرى بدرجة كبيرة.
السؤال الآن هو: من المسئول عن كل هذه الفوضى؟ أو بتعبير الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور “من ألقى بنا فى هذا الماخور الطافح؟”، من الذى أدى بالإعلام المصرى إلى كل هذا التهافت والانحطاط المهنى الذى تحول من مجرد أداة إلى سلاح خطر على الدولة والشعب؟
الإجابة تستدعى محاولة الاقتحام الكامل لكل من يتعلق الإعلام فى رقبتهم، ليس من الآن ولكن من سنوات مضت، أدت بنا إلى أن نكون فى مواجهة هذا الوضع الكارثى.
الاقتحام العادل يقتضى أن نضع الجميع فى مساحة الاتهام، واسمحوا لى أن يكون حديثنا مطولا، نضع فيه كل جهة أمام مسئوليتها وبالأسماء، فبدون ذلك لن نصل إلى شئ.. أى شئ.
أمامنا مساحة نحاكم فيها الدولة فى عقود سابقة ساقت الإعلام أمامها ليحقق لها ما تريد، فتحول إلى أداة داجنة تنفذ ما يطلب منها، دون محاولة لتقديم شئ له قيمة، لقد حولوا الصحف إلى صحف لقارئ واحد، والمواقع لمتصفح واحد، والقنوات لمشاهد واحد.
أصحاب الصحف والقنوات الذين أنفقوا عليها المليارات دون انتظار عائد، لأن العائد كانوا يحققونه مصالح ومكاسب من خلال استخدام وسائلهم للضغط فى كل اتجاه، ولدينا فى هذا الملف مشاهدات ووقائع كثيرة، أعتقد أن أحدا لا يمكن أن ينكرها أو يتنكر لها.
الإعلاميون أنفسهم، هؤلاء الذين تحول الإعلام على أيديهم إلى بقرة حلوب، فليس مهما ما يقدمونه، بقدر ما هو مهم ما يجنونه، أصبحت أرصدة هؤلاء فى البنوك هى قبلتهم الأولى التى يولون وجوهم شطرها، ولن أستثنى أحدا، فقد كان الجميع مشتركون فى جريمة تحويل الإعلام إلى سبوبة، قيمته وأهميته بالنسبة لهم تحدد بقدر ما يحصدونه من أرباح.
القراء والمشاهدون الذين تحولوا من متلقى سلبى تماما إلى متلقى ايجابى أجبر الإعلام على معالجات بعينها، حتى يرضى، وإذا كان الإعلام مارس دورا كبيرا فى ابتزاز الدولة والأجهزة وجماعات المصالح، فقد خضع الإعلام نفسه إلى ابتزاز من المتلقين، وما بين الابتزازين ضاعت الحقيقة تماما.
هل بقى شئ؟
بقيت أشياء بالطبع، فكل من تحالف على الإعلام أفسده وحوله إلى أداة مرذولة يفر منها الجميع.
هنا نبحث عمن أفسد، ونبحث أكثر عن محاولة للحل، فبقاء الإعلام المصرى على ما هو عليه ليس فى صالح أحد.. فالإنقاذ الآن أو لا إنقاذ على الإطلاق.
شاهد.. صور التقطت قبل وقوع أحداث مأسوية