قبلَ أن يُغَادِرَنا قطار «أكتوبر» الذي ننتظِره كلَّ عام، لنجدد وننشِّط ذاكرتنا الوطنية، لا يصح أن نودِّعَه هذا العام قبل أن نطرح بعضَ الأسئلة الصعبة التي واراها الترابُ، ونسيناها سنواتٍ طويلةً، لكنها تعود إلينا كل حين لتبحَثَ من جديد عن إجابات، وهو الأمل الذي يصعُبُ تحقُّقُه، لسبَبَيْنِ؛ أولهما أن الرئيس السادات، بطل الأسئلة ومحورها الأساسي قد اختَطَفَه القدر في أكتوبر حزين عام 1981، وثانيهما أن الأسئِلَةَ مرتبطة بصراعٍ إقليمِيٍّ رهيب وممتدٍّ ولن ينتهيَ بينَ العَرَبِ وإسرائيل، ما ظَهَرَ من أسراره أقلُّ بكثير مما خفي، وحتى تنجَلِيَ الحقيقة في يومٍ عِلْمُه عند الله، لا نملك غير تكرار طرح الأسئلة، لعلنا!!
ولنبدأ بما أظهرَتْه الوثائق البريطانية منتصف العام الحالي، من أن الرئيس السادات كانَ صادقًا في رغبَتِهِ في التقاعُدِ عن الحكم، كما ذَكَرَ بنفسِهِ أكثرَ من مرَّة سبقت اغتياله، لكن تحليلاتٍ (ناصرية ويسارية واخوانية) في حينِها كذبت النية وطعنت في مصداقية بطل الحرب والسلام، مستغلَّةً ما اشتَهر به الرجل من براعةٍ ومكرٍ ودهاء، وقدرةٍ مستمِرَّةٍ على المراوغة والتلاعُب بالألفاظ والأفكار والآراء والمواقف.
وكانت وثائق سرية بريطانية، حصلت عليها شبكة BBCالإخبارية حصريًّا في أبريل الماضي، قد كشفت النقاب عن أن الرئيس المصري السابق أنور السادات كان ينوي فعلًا التخلِّيَ بإرادته عن الرئاسة، غير أن اغتياله عجل بالنهاية الدرامية له ولحكمه، وفي تقرير مفصل بعث به إلى حكومته بعد 23 يومًا من الاغتيال، قال مايكل وير، سفير بريطانيا في القاهرة حينذاك، إن السادات كان جادًّا في كلامه عن التنحي. وتوقع السفير أن يكون ذلك يوم استرداد مصر الجزء الباقي من سيناء من إسرائيل في 25 أبريل عام 1982، أي بعد نحو 7 شهور من الاغتيال، وقال السفير: «أعتقد أنه ربما كان في ذهنه فعلًا أن يتقاعد في ذلك التاريخ الرمزي». وأضاف: «إن كان قد قُدِّر له أن يفعل ذلك، لكان الشعور الشعبي تجاهه أعظم بكثير مما كان».
نرشح لك: محمد مصطفى أبو شامة يكتب: ميلاد “إبداع إيجابي”
ولن أزيد على كلام السفير البريطاني؛ ففيه ما يكفي من مثيرات الشغف لأيِّ إعلامي يمتلك المساحة كي يبحث ويحقق لكي يدهشنا بمحتوى مهني يرسم ملامح رواية «تقاعد السادات» وتأثيرها (إن صَحَّت) على شكل الحكم في مصر حتى اليوم، وربما يكون هذا الإعلامي الشغوف قادرًا على الاقتراب من المنطقة المحظورة، ويناقش مدى صحة ما أطلَقَتْه ابنَتُه الكبرى وبعض أفراد عائلة السادات من ملابسات حول اغتياله، وقد يقدم لنا جديدًا حول ما جرى في «المنصة» لحظة قيام خالد الإسلامبولي وشركائه بتنفيذ جريمتهم الغادرة.
أما «الملاك» فهو الفيلم الذي أنتجته وأذاعته شركة «نتفليكس» الأميركية في 14 سبتمبر الماضي، والمأخوذ عن كتاب «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل» للكاتب الإسرائيلي أوري بار جوزيف، ويحكي قصة أشرف مروان صهر الرئيس جمال عبد الناصر، والمستشار الخاص وموضع ثقة السادات، والفيلم من إخراج الإسرائيلي أرييل فرومن. وقد أثار الفيلم جدلًا كبيرًا في مصر، أسهم دون قصد في دعاية قوية للشركة المنتجة التي تمتلك أكبر شركة توزيع محتوى مرئي عبر الإنترنت، باشتراك شهري يتراوح بين (8 و12 دولارًا).
وأعاد الفيلم الأسئلة المكررة حول وطنية مروان، والدور الذي لعبه في خدمة مصر والعرب كما تؤكد الشواهد والمواقف الرسمية، أو التجسُّس عليها لصالح إسرائيل كما ادعى الكتاب ثم الفيلم.
وللأسف لم يحرك الفيلم أو توابعه شغف أي إعلامي عربي (أو مصري)، ليجتهد بحثًا عن وراء لغز مروان سواء في حياته أو عند موته أو حتى بحثًا عن إجابة لأي من «أسئلة أكتوبر الحائرة»، ربما لأن «أكتوبر العرب» هذا العام غارق حتى الثمالة في البحث وراء ألغاز أخرى أشد قسوة وغموضًا.
شاهد.. صور التقطت قبل وقوع أحداث مأسوية