قديما كان هناك متسع من الوقت ليلتف أفراد الأسرة حول التلفاز لمتابعة برنامج أو فيلم والتسامر ليلا، واعتاد أبي على متابعة البرامج السياسية والإخبارية محاولا لفت انتباهي لصغر سني قائلا: “تعالى نشوف البلد رايحة على فين”، ومن بين البرامج التي كان يحرص بشدة على الاستماع إليها بتركيز شديد برنامج “رئيس التحرير”، الذي كان يبث على التلفزيون المصري.
وبهيئته المهيبة وصوته الرخيم ووقاره اللافت كان يخرج علينا كل أسبوع، ليبدأ برنامجه بكلمة “أهلا بكم”، وبخلاف كل البرامج السياسية التي كانت تعرض حينها، كان برنامجه يتسم بالهدوء، ورغم صغر سني وعدم إدراكي لخلفيات كل ما يتناوله في برنامج “رئيس التحرير”، إلا أنني كنت أعجب بشدة بكلامه المنظم والرسائل التي كان يرسلها في نهاية برنامجه، وفقرة أقوال مأثورة التي كان يختار فيها أبرز العبارات التي نشرت بالصحف المصرية والعربية.
لم يكن اهتمامي بالبرنامج سوى إعجابا بمقدمه وبأسلوبه في الحوار واختياره للكلمات، وبرغم بث البرنامج في وقت متأخر بعض الشيء إلا أنني كنت أحرص على متابعته بسرور، معتقدا أني -كما قال والدي- “بشوف البلد رايحة فين”، إلى أن عرض البرنامج تقريرا مصورا عن الانتهاكات الإسرائيلية البشعة بحق الشعب الفلسطيني أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية وتحديدا عام 2001 . تقرير لم يتجاوز الثلاث دقائق إلا أنه فتح لطفل في الصف الخامس الابتدائي أبوابا واسعة على قضية لم يكن يعلم عنها إلا القليل جدا، ولمفهوم لم يدر به من قبل وهو “المقاومة”.
نرشح لك: حمدي قنديل.. مشوار بقلم رصاص لا يمحوه الزمن
رغم صدمتي الأولى حين شاهدت التقرير؛ لما يحتويه من لقطات وحشية للعدوان الإسرائيلي على أطفال ونساء عزل، إلا أنني لم أمرر هذه اللقطات مرور الكرام، فأخذت أبحث وأقرأ وأتابع ما يدور في فلسطين، ولماذا يقتل أبرياء دون أي ذنب؟! ولماذا يفعل جنود الاحتلال كل هذا؟ وأين تقع القدس وغزة والضفة الغربية؟ وأين نحن من كل هذا؟ تساولات عديدة حاولت تفسيرها والبحث عن إجابات عنها، بل سرت مهموما حقا بالشأن العام وما يجب علي فعله.
نبرة صوت الإعلامي الكبير حمدي قنديل التي كان يغلب عليها السخرية من الأنظمة العربية وقراراتها، كنت أستمع بداخلها لأنين يحاول إخفاءه على الرغم من عدم قدرته على التحكم في ذلك لأكثر من مرة حيث يغلب عليه البكاء. وكأنه يستغيث بالشعوب العربية، علها تفيق وتكون ورقة ضغط على حكامها، لكن لم يحدث سوى أن تم إيقاف برنامجه عام 2003، في تعد صارخ على حرية الإعلام، وقد حكى في مذكراته “عشت مرتين” كواليس المضايقات التي كان يتعرض لها والتحذيرات التي كانت تأتيه من وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف، وانزعاج مبارك من وصف قنديل للإسرائيليين “بالسفلة”، فضلا عن مقص الرقابة الذي كان يحذف كما يشاء.
نرشح لك: أول راتب يتقاضاه حمدي قنديل من الصحافة
أطل “قنديل” بعدها عبر قناة دبي الفضائية من خلال برنامج “قلم رصاص”، معلنا عن عدم استسلامه، أو تراجعه عن مواقفه، مستعينا بكلمات الشاعر فاروق جويدة “لم يبق لي غير القلم”، إلا أن جرأته وتعليقاته على قرارات الحكومات والقادة العرب كانت سببا في وقف برنامجه مرة أخرى، وكأن كل الأنظمة كانت تخشى كلماته وآراءه وانتقاده لسياساتها.
لم يكن قنديل مجرد إعلامي متميز بل كان له باعا طويلا في الصحافة، التي عشقها وترك دراسة الطب من أجلها،وكانت بدايته بمجلة “آخر ساعة”، كما كان له احتكاك مباشر بالقيادات السياسية بعد ثورة يوليو، ولم يخفي انتمائه الناصري ورغم ذلك لم يتردد في انتقاد بعض سياسات الرئيس جمال عبد الناصر المتعلقة بالشأن الخارجي.
مواقف “قنديل” السياسية دائما ما كانت تقف في صف المصلحة الوطنية، لا يحابي لحزب ولا لفصيل، ولم يتردد في أن يعلن موقفه على الملأ أو ينسحب عن تيار يرى أنه يجرف الوطن تجاه طرق ملتوية، كما أنه كان من المتحمسين لمشاركة الشباب في العمل السياسي.
نرشح لك: في أول لقاء بينهما.. ماذا طلب حمدي قنديل من بشار الأسد؟
اعتقد أن غياب حمدي قنديل عن الساحة الإعلامية وضع الكثير من الإعلاميين في مأزق واختبار كبير أمام الجماهير التي عرفت معنى “كلمة الحق”، ومعنى أن يكون الإعلام عاكسا لحياتهم ومتحدثا بلسانهم، وكاشفا للحقائق دون مواءمات، والأهم أن سوق الميديا لن ينهض إلا بمحتوى قوي قادر على أن يعيد المصداقية للشاشة وما يعرض عليها.
وبعيدا عن السياسة، تجلى جانبا إنسانيا للغاية للإعلامي الكبير حمدي قنديل، وهي قصة حبه وزواجه من الفنانة نجلاء فتحي، والتي كشف عن تفاصيلها في مذكراته الصادرة في 2014، وما حملته هذه العلاقة من رومانسية ومشاعر طيبة دامت لأكثر من 20 عاما، كان كل منهما للآخر سندا وداعما ومصدرا للتفاؤل، ويعيطا درسا للكثيرين أن العمل الإعلامي والسياسي والاهتمام بالشأن العام لا يؤثروا على الحياة الشخصية ورقة القلب.
رحل الإعلامي الكبير حمدي قنديل مساء أمس الأربعاء بهدوء كما تسلل إلى قلوبنا بهدوء، لكنه ترك في نفسي سواء على المستوى الصحفي أو الإنساني أثرا لن ينسى وأعطاني درسا مفاده أن كلمة الحق أقوى من الرصاص.
شاهد.. صور التقطت قبل وقوع أحداث مأسوية