أحمد مدحت سليم يكتب: "أحمر خفيف" على هامش الكابوس

شاء الحظ أن أقرأ روايات المبدع وحيد الطويلة في عكس اتجاهها الزماني. فبعيدا عما قرأته منذ زمن في بعض أعماله إلا أنني أعد قراءاتي الحقيقية وشديدة التركيز هي تلك التي أعقبت اطلاعي وصدمتي وانبهاري برائعته الشهيرة “حذاء فيلليني”. وكما هي العادة مع المدهشين من المبدعين على اختلاف إبداعاتهم فإن هناك ما يميز إنتاجهم حتى يجعله مختلفًا عما تتوقع أو عن السائد أو عن المنطقي. والمختلف هنا أنك حين تقرأ أعمال الطويلة في مسارها الزمني التقليدي فإنك ستلحظ تطورًا في اتجاه الواقعية، ولو قرأتها عكس هذا المسار فإنك ستجد تطورًا في اتجاه الرمزية الشاعرية، والتطوران في كلا الاتجاهين ممتع ومترع بالبهجة..

أصل هنا لموضوعي وهو رواية  “أحمر خفيف”..

الرواية تقع في 266 صفحة – إذا أضفت لها الصفحة المعتادة في كتابات وحيد الطويلة وهي الصفحة الأخيرة المخصصة دومًا لسرد المراجع.. أقصد المقاهي التي كتبت الرواية على طاولاتها!!.

تحكي لنا “أحمر خفيف” عن قريةٍ ما، بشخوصها من كباراتها ومترفيها وحتى الصعاليك التائهين على أطرافها. وجميع الخطوط تدور حول محور قوي راسخ وأثيري أيضًا، وهو محاولة اغتيال الكبير “محروس” ورقاده على سرير لا يتسع لهيكله العملاق في إحدى المستشفيات الحكومية، ينازع الموت ويغطس في قلبه اللزج ثم لا يلبث أن يطفو مرة أخرى فتصيح “إنصاف” الابنة العاشقة والمرافقة الوحيدة بالغرفة: “مش قلت لك يا محروس ماتطلعش يومها”. ويزداد سأم الطبيب الذي حيرته الحالة التي لا تموت رغم فقدها لأسباب الحياة بالإضافة إلى فقد أحد أطرافها، أثناء عملية الغتيال الفاشلة حتى الآن..

لا يتوقف الطبيب عن حديثه الداخلي: “حقنة هواء واحدة ، يرتاح وأرتاح”. بينما الرجل المحتضر يصيح بأعلى صوته مخاطبًا عبد المقصود القاتل الغائب والحاضر دائمًا في المشهد: “اضرب، اضرب يا مره يابن الكلب”..

وخارج أسوار المستشفى يقبع كثيرون في انتظار ما ستسفر عنه معركة الموت مع محروس. منهم، الشيخ عثمان، والشيخ العناني الذي لا يتوقف عن مطالعة شجرة العائلة بين الحين والحين. وعزيزة العمشة محترفة العديد. وآخرون..

نرشح لك: أحمد مدحت سليم يكتب: الأستاذ الأول

ذكاء وحيد الطويلة  في أحمر خفيف – بحسب رأيي- هو في التقاطه لتلك التفصيلة الملهمة واهماله لعدد كبير من أطرافها التي لن تؤدي إلا إلى مزيد من الحكي والرغي بلا داعي. إذن أمسك الطويلة بهذه اللحظة وهي لحظة الاحتضار لرجل قوي كان يقف – كما ستطالع فيما بعد- كبيرًا على القرية، قرية “وادي جلانطة” (المحرف من اسم الفرنسي فيلمون جيلنتي الذي أسس المنطقة) والتي تقع ضمن زمام يضم قرى أخرى مجاورة، يسيطر بامكانيات فطرية وسياسية وقبلية على كل الأطراف. هذا هو محروس الذي يحتضر على السرير الذي لا يستطيع احتواء جسده الضخم ولا تراثه النفسي الأضخم..

أنت إذن حيال شخص غير عادي. قوي ومتمسك بالقوة رغم انعدام أسبابها. ومن هذه القوة التي كانت والتي تحاول البقاء، تنفتح أمامك القرية والحكاية، فلا تعرف من الذي يسرد عليك حكايا أشخاصها المهمين والمهمشين معًا. هل هو الراوي؟! هل هو وحيد الطويلة نفسه؟! أم هي ذاكرة محروس التي تتخبط في غيابات الاحتضار، فتجلب البعيد، وتخرج المدفون، وتنادي الأقربين؟!.

أقول أن قوة الرواية في تمسكها بهذه اللحظة، مما أضفى جوًا كابوسيًا مضببًا تدور الأحداث في حواشيه كالأسطورة، ولكن عبقريتها –الرواية- تكمن في اللغة. اللغة، شديدة الموسيقية كما هو الحال دائمًا في كتابات وحيد الطويلة- وشديدة الخفة كأنها غلالات من دخان بخور، تدور بالسرد حول نفسها، صعودًا وهبوطًا بلا حاكم إلا تيار الهواء –الوعي- فتدور بك، وتمعن في دفعك إلى تلك الحيرة حول من الذي يتحدث إليك؟!، ولا تدري هل تطالع سردًا لأحداث الرواية أم أنك تستمع إلى ما يدور في عقل محروس ورؤيته الختامية للحياة أسفل ضربات الموت التي تتلاحق في وهن، لا تتوقف عن الدق ولا تضرب بشدة حتى ينقع الخيط وتصعد الروح  فينفض جمع المتحلقين في الغرفة وفي الردهات و حول سور المستشفى.. “فتق النور الغشاء، بوغتوا، كانت لحيته عند حواف أقدامهم، ممتدة للبعيد، وجلوا، قلوبهم في ركبهم، هرت سراويلهم، وانزرعت أقدامهم داخل الأرض، وهو يسحب لحيته خفيفًا إلى داخل الدار، شيئًا فشيئًا، يجرهم رعبهم وأمانيهم وطمعهم خلفها.”

يستدعي محروس الجميع، أشخاصًا وأحداثًا فنقابل حكاية العهد مع الشيخ العناني ومحاولته المأساوية لتغييره، القاتل وصراعه مع نفسه حتى لحظة المواجهة، والعجوز صاحبة النبوءة المرعبة، والدكتور عزت عاشق الحمارة، وتابعه الفناجيلي، وأبو الليل، وآخرون كثير، لا أرى إلا أترك لك حرية التعرف عليهم بين صفحات الكتاب..

“أقطع دراعي لو شفتوا بعض تاني، آخر مرة تقعدوا مع بعض”.

واستدارت..

مضت إلى الباب، ثم عدلت وجهها في اتجاههم، وهم في حال، مأخوذون، خرس الخرس، والريح السوداء غطت وجوههم. إلا محروس الذي ناداها مرة، مرتين.. لتدخل، لتعود. حدقت طويلًا في عينيه، ولعبت بأرجل الدجاج المعلقة: خليك إنت بعيد، خليك بعيد، أبو الليل كمان بعيد”

ويختتم الطويلة ألعابه وحيله  بوضع  “ملحوظات” في موضعين بين الفصول!!، ثم في النهاية بما أسماه “التتر” الذي يشارك هو –بشخصه- ضمن أبطال العمل في تلخيص سريع لأهم الأقوال التي تعيد رسم الشخصيات وانفعالاتها..

متعة مؤكدة، ورحلة شيقة، وحرارة صادقة وأصيلة، ستطالعها دومًا وأنت تقرأ لـ”الموسيقار” وحيد الطويلة.

11 سؤالًا لـ أحمد مدحت سليم.. أحمد مدحت بس سابقًا

شاهد: أبرز المعلومات عن منتدى شباب العالم 2018