تتمتع الخرافة في الوطن العربي بقدرة عالية على تطوير نفسها من حيث الأدوات والمحتوى ، أما الأدوات فهي نوعان: ثابتة ومتغيرة ، الثابتة مثل:1) الإرهاب والخوف (أحدهم لم ينشرها فخسر كل أمواله ومزقته سيارة ، إذا لم ترسلها لـ200 سيصبح بريدك الألكتروني غير مجاني ، إن لم تغلق هاتفك الليلة ستحطمك الأشعة الكونية الخزعبلية… إلخ).. 2) استعمال الجانب الإيماني والرغبة في تحصيل الثواب السهل (رائد فضاء يسمع الأذان على سطح القمر ، انشرها أمانة في رقبتك ليوم الدين ، من نشرها فله بكل حرف 3 مليون حسنة …. إلخ).
أما الوسائل المتغيرة فبدأت بالحكايات والقصص المنقولة لفظا (أمنا الغولة ، وحلقة دكتور مصطفى محمود التي قال فيها إذا اتصلت 7777777 سيرد عليك الجن مع تأكيد كل قاص أنه رأى الحلقة بنفسه ، والكائن الذي يهاجم الأطفال إذا لم يغسلوا أسنانهم، والشبشب المقلوب، والنكد الذي يحدث باستخدام المقص في الهواء … إلخ) ثم ظهر الورق المصور الذي يتم توزيعه (رسالة الحاج أحمد حامل مفاتيح المسجد النبوي ، وتنبوء سورة التوبة بأحداث سبتمبر عبر أرقام الآيات التي قصت قصة مسجد ضرار …. إلخ) ، ثم البريد الألكتروني والمنتديات التي امتلأت بمثل هذه القصص والأحاديث الضعيفة والموضوعة والأساطير الباطلة ثم إلى الوريث الشرعي للمنتديات وهي مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك وتويتر ثم تطبيقات الأندرويد كالواتساب وغيره والتي ساعدت على التوسع بشكل كبير جدا، ومع تطور أدوات نشر الخرافة تطورت بالضرورة أدوات كشفها وتقصي حقيقتها وهذا من فضل الله ورحمته ولكن للأسف في أوطاننا لا نعرّض أنفسنا لهذا الفضل والرحمة بقدر ما نعرّضها مختارين للخرافة والفتن.
أما المحتوى فقد طوّرت الخرافة نفسها في بعض الجوانب ، فقد كان المحتوى عبارة عن معلومة ساذجة تستقي قوتها من الانتشار والتوارث وحسب بلا مصدر (روايات الآباء والأجداد) ثم بدأ المحتوى يقوى في معلومته قليلا ويستقي قوته من نسبة الخبر لصحيفة أو حلقة تلفزيونية (كدكتور مصطفى محمود في المثال الذي ذكرته أو شائعة أن محمد صبحي مسيحي .. ) وفي تلك المرحلة كانت استرجاع هذا العدد وهذه الحلقة من أجل التأكد صعب ، ومع توسع الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة وتطور تكنولوجيا المعلومات بدأت الخرافة ترتدي زيا يناسب الوضع الجديد ، فوجود حد أدنى من الثقافة عند الشباب يحول بينهم وبين تصديق ونشر روايات الآباء وإن لم تختفي بالطبع، ولكن هذا الحد في نفس الوقت ليس كافيا لمقاومة الوسائل الثابتة المذكورة عاليا إذا صاحب المحتوى توثيقا ينسب الخبر إلى العلم الحديث ومؤسساته ، وإلى مصادر مبهرة لن يتمكن المتلقي من تقصيها بنفسه كسلا أو جهلا ولكنها ستعطي لمنشوره وجاهة تناسب درجة تعليمه وثقافته الظاهرة بخلاف روايات الآباء المضحكة، التي أكرر أنها لم تختف ، ووكالة ناسا وموقعها ليسا الوحيدين ولكنهما الأكثر انتشارا في حاشية تلك المنشورات الخرافية، وما سأطرحه هو مجرد نموذج لهذا التطور الخرافي.
هل سمعت عن أشعة كوزمو التي ستصل الأرض اليوم من المريخ وتضر بأي إنسان يضع هاتفه المحمول بجواره؟ كيف لم تسمع فالخبر نقلته الـBBC عن موقع ناسا في ليال مختلفة منذ 2012 إلى الآن في 2015!! تلك الليلة التي لا تأتي ولا تنقضي في نفس الوقت فهي مرتبطة بتاريخ وصول الرسالة إليك، بجانب رسائل عن نهاية العالم وانعدام الجاذبية واصطدام كواكب وما شابه ، وهذا النوع منتشر ومتنوع ، ولكنه ليس في خطورة ما يلي.
هل تعلم أن الكثير من المسلمين قد صدموا فعلا يوم وفاة نيل ارمسترونج ، لقد عاشوا سنوات وهم يظنونه مسلما حتى وجدوا الصليب يعلو نعشه والحشود تشيعه في الكنيسة ، يعتقدون أنه قد أسلم في رحلته للقمر لأنه سمع أذان المسلمين فوق القمر، ولم يتعجب أيا منهم أن الرجل منذ عودته من القمر لم يظهر في أي وسيلة من وسائل الإعلام أو يعثر له على فيديو ولو دقيقة يذكر قصة إسلامه ويدعو لدينه الجديد، وبالتأكيد أيضا قد وقع أمامك يوما اكتشاف ناسا الذي أبهر العالم وهو اختلاف إضاءة الحرمين من الفضاء عما حولها ، فهما مضيئان وسط ظلام تام ، وبالتأكيد لاحظت أن الخبر قال أن الصور على موقع ناسا أيضا التي أسلم الكثير من العاملين فيها على إثر الحدث، إنه الاكتشاف الذي نشر في كل مواقع الدنيا ، عدا موقع ناسا الأمريكية ، نشر فقط في مواقع ناسا العربية (المنتديات والفيسبوك) وظل منتشرا أيضا ويكتب كل يوم وكأنه اكتشاف البارحة مع توقع تحول أكثر العالم إلى الإسلام بسببه ، ولا يزال الجميع ينتظر ، ولأن الأسطورة لا ينبغي أن تموت مع أرمسترونج ، ولأن النساء بطبيعتهن يستطعن التركيز في أكتر من مهمة ، فقد جمعت الأمريكية من أصل هندي (سونيتا ويليامز) المعجزتين معا ، فخرج منشور جديد عنها اجتاح مواقع المسلمين ومنتدياتهم عن إسلامها بعدما جمعت بين سماع الأذان على القمر (معجزة أرمسترونج) وبين رؤية الحرمين يشعان نورا وسط الظلام من على القمر أيضا وأنها هي التي التقطت هذه الصور ، وذلك في رحلتها التي لم تتضمن زيارة القمر أصلا!! كما كانت رحلتها بعد انتشار هذه الصور على مواقع المسلمين بسنوات، ومع ذلك المنشور منتشر حتى يومنا هذا.
بين خرافات أشعة كوزمو وانعدام الجاذبية وخلافه أو الخرافات التي تبدو ذات بعد ديني إعجازي أتساءل ضاحكا من همي وبطريقة المصريين (هي ناسا دي مالهاش أهل يسألوا عليها!!).. ربما لأننا لا نحفظ أسماء مؤسسات علمية غربية غيرها ، وربما لو علمنا غيرها لحدث التنوع وخففنا الحمل عنها قليلا.
كل الخرافات خطيرة ، فالعقلية التي تعيش بين الأكاذيب ولا تتبع أسلوبا علميا منطقيا في تحري صحة ما تسمع لا يمكن لها أن تبني وتتطور وتصلح ، ولكن الأخطر في كل ذلك هي تلك التي تقدم نفسها في صورة دينية إسلامية يصحب تكذيبها تكذيبا للمسلمين وطعنا في عقائدهم ، والعجيب أن كثير من هذا الهراء ينتشر على أيدي من يتحدثون عن تحسين صورة الإسلام في الغرب ويقدمون تنازلات ويفرطون في أمور من دينهم لأنها في ظنهم تشوه الإسلام ، في حين أنهم ينشرون ويؤمنون بمثل هذه الأكاذيب التي تمثل تشويها لا يماثله تشويه ، فالباطل فقط هو من يحتاج الكذب والتدليس لينتشر ، فالهزيمة النفسية التي يعيشها الكثير من المسلمين دعاة وعوام ضاعفت مأساة الدعوة ، فتنازلوا عن أصول إسلامية ابتداء، ثم نسبوا للإسلام ما ليس فيه ، وهرولوا وراء الأباطيل ، فلا حقا قدموا ، ولا باطلا اجتنبوا.
ملاحظات:
1- مسئولية منبر الجمعة كبيرة جدا في هذا الصدد ، فقد لا يصدق المسلم منشورا يقرأه أو إيميلا وصله ، ولكن لا يتصور أن يقول الخطيب قصة مكذوبة لا سيما إن كان ذا علم وهيئة وجيهة ، فيعتبر قول الخطيب دليل صحة ينشر به ، في حين أن الخطيب مصدره الوحيد هو نفس المنشور الذي قرأه صاحبنا وتجاهله.
2- تحية خاصة لقصة الحاج أحمد حامل مفاتيح الحرم النبوي ، فقد رأيتها مطبوعة وأنا صغير ، ثم جاءتني كبريد إلكتروني ثم قابلتها على الفيسبوك وانتظرها على الواتساب ، فهي لا تزال تحظى بنفس الانتشار رغم القدم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
3- موقع ناسا ومواقع الأخبار الأجنبية التي تنسب إليها تلك القصص كلها بين يديك ، ومواقع الحديث التي تعلم منها صحة الحديث من عدمه أيضا بين يديك ، فماذا ستقول لربك عن نشرك لهذا الهراء فضلا عن اعتقادك فيه؟