محمد غنيمة يكتب: حمو بيكا و"شطة" وثقافة "الكيتش"

دومًا ما أقف مذهولًا أمام تصريحات هذا المخرج أو ذاك المنتج وهو يردد تعليقًا على عمله الفني السيئ، “هذا هو الواقع”، هذه المقولة المتكررة كفيلة بإصابتي بإحباط مزمن، ولا أخفي سرًا حينما أقول إنني أعتبر هذا النوع من الأفلام نوعًا من ثقافة “الكيتش” بمعنى (الأشياء الفنية الرخيصة أو المبتذلة)، وهذا النوع هدفه هو تشويه المفاهيم، والقيم، أو تزييف من نوع خاص من الإبداع، كما أن مصطلح “الكيتش” يمكن توصيفه بحالة التدني الحضاري أو الثقافي بوجه خاص.

ومن وجهة نظري المتواضعة فإن الغرض الأساسي من صناعة الإبداع هو إظهار الجمال، أو إعادة تشكيل الواقع بشكل أكثر جمالًا، والأدب هو تأديب النفس لحثها على أن تكون أكثر جمالًا وإنسانية، حتى في هذه الأيام واللحظات الحرجة التي نعيشها.

نرشح لك: أشرف زكي: ما يقدمه “بيكا” و”شطة” إرهاب

لعل بداية الكتابة عن حالة التدني الثقافة، كانت لعبد الرحمن الجبرتي في موسوعته “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، حيث ذكر عند دخول الفرنسيين ومنها أنه “لما أو في النيل ادرعه ودخل الماء إلي الخليج وجرت فيه السفن وقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والرقص والغناء والشرب في النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة وعليهن الملابس”، وجاء الرصد هنا حسب مفهوم الجبرتي نفسه على فكرة التدهور المجتمعي الثقافي، بمعنى أوضح أن الثقافة المصرية بدأت في الانحصار مقابل الثقافة الفرنسية التي ما لبث أن أصابت المجتمع بنوع كبير من اضطرابات الهوية؛ ثم بدأ إرساء لفكرة الهوية خلال فترة محمد علي، الذي أنشأ الأخير العديد من المدارس المتخصصة وإرسال البعثات العلمية إلى فرنسا وهنا بدأت نهضة ثقافية جديدة تشجب ما حدث خلال فترات الأزمات الطاحنة وأعادت البوصلة المصرية إلى مسارها الحديث، الأمر نفسه حدث عندما حدثت نكسة 1967م.

وهنا بدأ المثقفون والمفكرون المصريون في المواجهة الشجاعة لإعادة بناء الشخصية المصرية، فنجد مثلا جمال حمدان يطرح كتابًا صغيرًا بعنوان “شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان”، هذا الكتاب كان الهدف منه أساسًا هو إعادة بناء شخصية المصرية بعد هذه الأزمة الطاحنة والأمر ذاته عند طه حسين الذي دعا في رواياته وكتبه الأمر ذاته، ويبدو جلي في كتابات المثقفين خلال فترة أواخر الستينيات وأوائل السبعينات من القرن الماضي وأظن هذا سببه واضح وذلك لمواجهة النوعيات الجديدة التي ظهرت من السينما أطلق عليها سينما المقاولات، فكان هناك دور قوي تقوم به النخبة المثقفة الحقيقية في مواجهة هذه النوعيات الرديئة من الثقافة، أما الآن فنحن في موقف نحسد عليه فقد انتشرت خلال الخمس سنوات السابقة هجومًا غير مبررًا على شخصيات المجتمع الثقافية والدينية والسياسية وغيرهم، إجمالًا هو هدم فكرة القوى الناعمة وبالتالي زعزع الثقة في مجتمعنا الثقافي وغابت فكرة المثل الأعلى التي طالما سمعناه في أي لقاء لأحد الشخصيات المصرية الأصلية.

الأمر مختلف الآن، فنحن في قلب مرحلة مختلفة وعالم جديد يجب أن نعي معطياته ومعطيات جيله، فالثورة الرابعة (الإنترنت)، خلقت لنا جيلًا جديدًا أطلق على نفسه “جيل الإنترنت” وهذا الجيل أبرز ما يميزه هو أنه يتعلم بسرعة، ويقرأ بسرعة أكبر، ويحب التقنية ويقدر من يقدرها، ولا عجب أن تشاهد بعض أهل السياسة قد استمالوا قلوب هذا الجيل، فمثلًا وظف باراك أوباما تقنية (تويتر ) ليرسل إلى مؤيديه من هذا الجيل أحداث حملته الانتخابية أولًا بأول، كما فعل أيضا “أرودغان” أثناء الانقلاب العسكري عليه فلم يجد سوى (الفيس تايم) كي يستطيع مخاطبة شعبه وغيرهم كثيرون من أهل السياسة والثقافة والعلوم، وأمام هذا التقدم المتصاعد والمربك يوميًا، ظهرت نوعيات من ثقافة “الكيتش” تغزو العالم ولن تجد لها رادع، والأمر المؤسف هنا أننا نقوم بدعمها بشكل مباشر، فلك أن تعلم أن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى شهرة أشخاص مثل حمو بيكا و”شطة” أو قبلهم أوكا وأورتيجا هو أنفسنا حيث أننا ولأسباب مختلفة ساعدنا في طفو هذه الثقافة على السطح، فمن منا لم يقم بمشاهدة فيديوهاتهم على اليوتيوب وبالتالي الانتشار أكثر على مجال أوسع ليس محليًا فقط بل عالميًا، وتعددت الأسباب والقناعات في مشاهداتهم.

الأمر هنا ما يجعلني أطالب القوى الناعمة المصرية أن تقوم بدورها في تقديم ما هو جدّي وقيم في كل المجالات الإبداعية والثقافية والاجتماعية وعدم اللهث وراء أفراد هذه الثقافة، بل البدء في دراسة الأمر نفسيًا وثقافيًا واجتماعيًا وغيرها من الدراسات الجادة للأمر وخلق نوع من الثقافة نقدي محترم قائم على فكرة نقد ما يستحق وما يمكن أن نطلق عليه إبداعًا، وأن نتعلم مفاهيم هذه المجتمع الافتراضي التي تحترم الكم لا الكيف، ومعرفة كيفية التعامل مع هذا العالم، كما أننا يجب أن نركز على تقديم ما هو يتواكب مع جيل “الإنترنت” ليرضى معرفته وعقله وعقلنا جميعًا، لا نتعامل بمنطق العصور السالفة في محاربة هؤلاء ولا نأخذ من تجربة بوب مارلي في أمريكا نموذجًا يمكن التعلم منه فلكل عصر مقومات ويجب أن نعلم جيدًا أن هذا الأمر سوف يتكرر إلى أن نعلم منهجية العيش على الإنترنت، وطالما أن الحياة الإبداعية في مصر في حالة رثة سوف يتزعم أهل ثقافة “الكيتش” الأذان والأبصار.

شاهد: 5 دروس مستفادة من مقاطع كنان وريتان (يوميات عائلة ملسوعة)