سيد محمود
مساء اليوم الذى اندلعت فيه معركة حمو بيكا ومجدى شطة حضرت حفلا موسيقيا بقصر المنيل نظمته جمعية اصدقاء المتحف ضمن مهرجان للموسيقى الرفيعة شمل حفلات لعازف البيانو الشهير رمزى يسى ومغنية الاوبرا فاطمة سعيد إلى جانب عدد من الموسيقيين الاجانب.
وطوال رحلة العودة من الحفل الجميل بقيت اقلب مواقع التواصل الاجتماعى وأتأمل المسافة بين السياق الذى كنت فيه وسط حشد من النبلاء وعيلة القوم وبين سياق آخر منشغل بمعركة بيكا وشطة وأظهر فى تطوراته نمطا من التفكير الاستبدادى لا يقل فى مخاطره عن أى استبداد آخر.
لم يتعلم مهاجمو حمو بيكا ومجدى شطة درس التاريخ، بالغوا فى الهجوم ولم يحاولوا التعمق فى فهم الظاهرة، اكتفوا بالرفض وتمسكوا بيقين الاستبداد، وأفرطوا فى استعمال سلطة المنع سواء كان مصدرها مقعد نقابى اوخبرة بالمجال أو مساحة فى منبر اعلامى.
أصوات كثيرة كانت قد اختفت وغابت عن الشاشات لكنها وجدت فى هذه المعركة فرصة لاستعادة المساحات التى تم انتزاعها، استعملوا اللغة القديمة فى فضاء ليست لديهم القدرة على فهم أدواته والسياقات الحاكمة له، فهم «أهل الكهف» المعاصرين.
نرشح لك: سامح سامي يكتب: الفوتوغرافيا.. ووهم الحياد
وربما لا يعرف أمثال هؤلاء أن الدراسات النقدية تطورت فى العالم كله ولم تعد قادرة على إهمال هذا النوع من التعبيرات الثقافية والفنية وتوجد اليوم العديد من الكتب والمراكز البحثية المعنية بتحليل كل أنماط الإنتاج الثقافى فى علاقتها بالممارسات اليومية سواء الأيديولوجيا أو المؤسسات، إلى جانب اللغة التى ينتجها أى نص، فكل عمل هو منتج لخطاب كاشف عن زمن إنتاجه وزمن استقباله وتلقيه.
وبفضل هذه الدراسات متداخلة الاختصاصات لم يعد الإنتاج الثقافى يدرك كتعبير محلى ذاتى ولكن كإنتاج معمم أفرزته العولمة وثورة الاتصالات التى خلقت «ديمقراطية الوسيط» ويسرت من أدوات الإنتاج الفنى وأتاحتها.
وبفضل النقد الثقافى أصبحت الأولوية فى التعامل مع أى نص هى التفسير والتحليل قبل التقييم، فكل عمل وثيقة تعكس القيم الأيديولوجية والسياسة السائدة وأشكال الصراع حولها هذه القيم فى جميع فنون الميديا.
وبالتالى لا يمكن فهم ما يحدث مع حمو بيكا وشطة ومن قبلهما موسيقى المهرجانات بمعزل عن فكرة بديهية وهى أن الدولة لم تعد كما كانت فى الماضى قادرة بمؤسساتها التقليدية على التحكم فى الذوق العام، لأن أنظمة الاعتراف وأدواته تغيرت بفضل تغير الوسيط الإنتاجى وأصبحت خارج السيطرة بالكامل، كما أن «ثقافة النخبة» هى الأخرى لم تعد «مهيمنة» ومهما بلغ رأسمالها الرمزى فلا تزال قدراتها تنحصر فى التوجيه والإرشاد وتعجز عن الوقوف أمام ثقافة الجماهير الغفيرة التى تبتكر دائما وسائلها للمقاومة والتحايل.
والغناء الشعبى غير الرسمى على رأس تلك الوسائل التى تعبر عن فئات تعانى مختلف أشكال التهميش والحرمان الثقافى.
ولم يكن الفنان الكبير أحمد عدوية عند بداياته إلا صوتا مقاوما لأنظمة الاعتراف الرسمى التى لا تقدم الحياة كما هى بل تقدم ثقافة الهيمنة أو ثقافة المؤسسة بما تنطوى عليه من مختلف أشكال التمييز كما يقول الناقد عبدالله الغذامى فى كتابه عن النقد الثقافى.
ولا ننسى أن عدوية هو أول من ألقى حجرا على «مبنى ماسبيرو» وأكد نجاحه حضور صناعة جديدة لم تكن شائعة فى مصر هى صناعة «الكاسيت».
واليوم تفرز الوسائط الجديدة أصواتا أخرى، قد لا تكون بنفس الكفاءة أو الموهبة، لكن من يهاجمها يستعمل الخطاب ذاته وينطلق فى تبرير المنع من هاجس استبدادى آخر هو هاجس فقدان المكانة،
فى حين نسفت «أشكال ما بعد الحداثة» ونظرياتها التمييز بين الثقافة الرفيعة وبين ما يسمى الثقافة الشعبية أو الجماهيرية» بل قامت بدمجهما إلى درجة أنه يصبح من الصعب رسم الحد الفاصل بين الفن الرفيع والأشكال التجارية وبات الرهان على علاج المسافة بينهما وليس تأكيدها من باب التعامى أو التعالى كما نفعل اليوم.
شاهد: الحلقة الثالثة من #الخلاصة.. حزب أعداء #حمو_بيكا