لم أستطع تجاهل الحدث، فليس أقل من احتفاء مُتَجَدِد بـ”المقال”، حتى وإن كان السبب هذه المرة، هو توقف النسخة الورقية عن الصدور، في تراجع جديد للصحافة المطبوعة، أمام الصحافة الإلكترونية، مرة أخرى نؤكد، أن السؤال لم يعد “هل تختفي الصحافة الورقية؟”.. بل أصبح “متى تختفي الصحافة الورقية؟”.. فالصراع بين الورقي والإلكتروني محسوم، آجلاً إن لم يكن عاجلاً، ولكن تبقى لحظة فراق الورقي مؤلمة، وجع في قلب من نشأ وشب وشاب عليه، فلا يزال يمر كل صباح على باعة الصحف، يمسح بعينيه أسماء وعناوين الجرائد والمجلات، قبل أن يختار ما اعتاد أن يقرأه، أو ما يقرأه “شغف” أو فقط لمجرد المتابعة.
وعلى مدار ما يقرب من أربع سنوات من عمر “المقال”، منذ العدد الأول الصادر في 9 فبراير 2015، وحتى عدد الوداع 926 الصادر في 30 أكتوبر 2018، أشهد أني لم أقرأ “المقال” يوماً إلا قراءة الشغف، وهو عهدي بمؤسسها الكاتب الكبير إبراهيم عيسى، رائد التجديد في بلاط صاحبة الجلالة، بإصداره الأشهر “الدستور” في منتصف التسعينيات، وإصداره المشاغب المختلف “المقال”، والذي خرج إلى النور كأول صحيفة رأي وتحليل يومية، صدرت واستمرت مستقلة بكل معنى الكلمة، فلم يكن الناشر إلا هو نفسه المؤسس، صدرت يومية في 10 صفحات، وتوقفت أسبوعية في 8 صفحات، ولم تستهدف إلا قاريء الورقي في عز سطوة الإلكتروني.
نرشح لك: حسين عثمان يكتب: ملاحظات الأسبوع السبعة
وطوال رحلة خَطِرَة في حقول ألغام، صدقت “المقال” ما عاهدت الله والقراء عليه منذ صدورها.. “الصحافة فن وأمانة مش مجرد شغلانة”.. “مهنة تنوير في زمن أصبحت فيه الأمور تقاس بالشير”.. “لا تزال هناك أشكال أخرى من الصحافة الورقية في زمن الشاشة التاتش”.. “العقل لا يزال بحاجة إلى استرجاع ثقافته المصرية الأصيلة والتخلص من سطوة الترافيك”.. “المشكلة مشكلة غياب المعلومة والتحليل الدقيق في زمن يحتفي بكل ركيك”.. “هناك حلول للمشكلات بخلاف الاحتجاج أو عمل الهاشتاج”.. “نحتاج إلى تحرير العقول من الأوهام حتى نستطيع التحرك إلى الأمام”.. “أعداءُنا الرئيسيون الإرهاب وإسرائيل”.. “الأخلاق غابت والمنطق فسد والحال صارت غير الحال”.. ولهذا صدرت “المقال”.
وفي هذا كله، ومع مد وجزر المجتمع المصري، بكل تقلباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الدينية والثقافية والفنية، لم تأتِ “المقال” يوماً إلا خارج الصندوق، شكلاً ومضموناً، ولم تكن إلا صرخة حادة في وجه الجمود والنمطية، والقوالب المحفوظة عن ظهر قلب والمتوارثة عبر الأجيال، ولم تنسَ في السياق، إنعاش الذاكرة المصرية، بكل ما ومن ساهم، في تشكيل العقل الجمعي المصري في عصوره الذهبية، ونسيناه أو تناسيناه، وفي وسط متاهة البحث عن شفرة الشباب، في محاولات بائسة لإيجاد لغة تواصل فعال معهم، صدرت “المقال” تفتح أبوابها بلا وصاية للموهوبين المجتهدين منهم، فلم يصيروا إلا نجوماً بحق، تتصدر رؤاهم مانشيتات “المقال” وصفحاتها الأولى.
لا أكتب اليوم في وداع “المقال”، بقدر ما أحرص على تحرير هوامش بدفتر أحوال صاحبة الجلالة، تحفظ لـ”المقال” حقها في أنها أدت رسالتها المهنية الإنسانية الوطنية التنويرية على أكمل وجه، وإن كانت رؤية المؤسس إبراهيم عيسى، قد أخرت إطلاق الموقع الإلكتروني لـ”المقال” لما بعد صدورها مطبوعة بقليل، حرصاً على تعظيم قيمة الإصدار الورقي، فقد آن الأوان لأن يتسلم الموقع الإلكتروني الراية، حتى تواصل “المقال” رسالتها في تحرير العقل المصري، وإعادة صياغة الشخصية المصرية، ونوصي في هذا، بأن يفتح موقع “المقال” أبواب النشر بلا حدود، خاصة وأنه بطبيعته التقنية لا تحده قيود المساحة الورقية، شكراً لـ”المقال” الورقي، وأهلاً ومرحباً بالـ”المقال” الإلكتروني.
شاهد: الحلقة الثالثة من #الخلاصة.. حزب أعداء #حمو_بيكا