أمنية الغنام
غالباً ما نميل لتفسير تعبير “القوى الناعمة” لكل ما يتعلق بالأشخاص في مجالات الأدب والثقافة والفنون لكن ماذا عن الأماكن هل يمكننا اعتبار مقهى شعبيًا بسيطًا في منطقة وسط البلد بقلب القاهرة تلك القوى مثله مثل المسارح ودور السينما، ومنتديات الثقافة؟.. نعم يمكن ذلك عندما يعكس هذا المقهى تاريخًا طويلًا وممتدًا من قصص وحكايات ممن أبدعوا في المهن المختلفة المرتبطة بالفن والسينما بعضها وصل للبنان، والبعض الأخر كان الحزن والخذلان السمة الغالبة عليها.
قهوة بعرة صغيرة المساحة، قد لا تتسع لعدد كبير من المقاعد ، لكن شهدت جدرانها لقاءات عظماء الفن أمثال رشدي أباظة، تحية كاريوكا، صلاح ذو الفقار. وكما جلس عليها هؤلاء، جلس عليها أيضاً صغار الممثلين أو أصحاب الأدوار الثانوية والكومبارس لتشهد معاناتهم في البحث عن فرصة وأملاً في تحقيق النجومية والشهرة.
نرشح لك: 12 تصريحًا لـ مروة أبو ليلة.. أبرزها عن “أسبوع القاهرة للصورة”
إعلام دوت أورج ذهب إلى قهوة بعرة والتقى عصام الزناتي صاحب القهوة وأحد شركاء أبناء عمومته فيها. ليحكي لنا عن جوانب قد لا يعلمها الكثيرين عن هذا المكان.
– تاريخ قهوة بعرة يعود لسنة ١٩٣٢. كان اسمها الحقيقي قهوة “الكورسال”، بدأت تنال شهرتها بعد ذلك بحوالي ١٥ عامًا عندما أصبحت ملتقى للفنانين وجميع العاملين في مجال السينما.
– اسم بعرة لا يمت بصلة من قريب أو بعيد لاسم عائلة الزناتي صاحبة القهوة، إنما جاءت تسمية بعرة من الفنان الراحل رشدي أباظة الذي كانت تربطه علاقة صداقة بجَدّي”عم والدي” محمد الزناتي حيث كان قوي البنيان وذو جسم ممشوق وكان يجيد الرقص بالعصاة، وهو الذي درب أباظة عليها داخل القهوة ، فجرى على لسانه أنا ذاهب عند بعرور”وهو الجمل الصغير” ومن هنا جاء اسم بعرة.
– موقع القهوة في شارع سليمان الحلبي بوسط البلد وقربها من شارع عماد الدين، ومسرح نجيب الريحاني وسينما ومسرح كوزموس، بالإضافة لانتشار مكاتب الفنانين وشركات الإنتاج من حولها جعلت منها ملتقى لجميع العاملين بالمهن السينمائية من مديري الإنتاج، المخرجين، الممثلين، المصورين، فنيي الإضاءة الكوافير والماكيير، والريجيسير. وكذلك كانت نقطة ارتكاز انطلق منها الكثير والكثير من الكومبارس والمجاميع.
– لم يكن هناك ممثل أو فنان في مصر إلاّ ويحتفظ برقم تليفون قهوة بعرة، فإذا تم السؤال عن أي شخص في مهنة السينما كنا نعرف مكان تواجده سواء لديه تصوير مثلا في استوديو الأهرام أو أنه مريض ولم يغادر منزله. وهكذا، فقد كانت بمثابة مكتب يتلقى الكثيرون من روادها طلبات تصوير الأدوار والمشاركة في الأعمال من خلالها.
– كنت آتي مع والدي وعمري ٤ سنوات، ودائماً ما كنت أشعر بالدهشة والفرحة لتواجد هذا العدد الكبير من الفنانين – أحمد زكي، محمود حميدة، سعيد صالح، عادل إمام، يونس شلبي، مدحت صالح، أحمد بدير، نادية الجندي، صلاح عبد الله، صابرين، هالة فاخر، فيفي عبده.. والكثير الكثير. وأذكر جيداً أنه كان لكل فنان ركن خاص يحبه أو كرسي معين يفضل الجلوس عليه.
– كنا نعمل فترتين من ٦ صباحاً وحتى ٣ صباحاً، وحتى وفاة والدي سيد الزناتي في يناير الماضي خاصة منذ سنوات طويلة كان يحرص على أن يملأ صوت القرآن الكريم المكان صباحاً من خلال الراديو الخشبي ثم الاستماع إلى أغاني أم كلثوم من ٥- ١٠ مساء ثم بعد ذلك أغاني عبد الحليم حافظ وإن اختلف ذلك النظام إلى حد ما بعد انتشار أغاني المهرجانات وإدخالنا الكاسيت مع تجديد القهوة.
– لم يكن لقهوة بعرة في بدايتها أي لافتة مُعلقة، وكانت بسيطة ومتواضعة في حوائطها أو حتى المشروبات التي تقوم بتقديمها، حتى سنة 1995عندما بدأت في مساعدة والدي في الإدارة وبحكم علاقاتي عرضت علينا شركة عمل دعاية لاسم قهوة بعرة، وكان الاقتراح بعمل لافتة لواجهة القهوة عبارة عن صور بالأبيض والأسود لبعض الفنانين القدامى ومكتوب عليها عبارة “أشهر قهوة في مصر”. هذه اللافتة لفتت إلينا الأنظار أكثر وأكثر وازدادت شهرة بعرة أكثر خاصة في الصيف مع زيارة الرواد من الدول العربية. أذكر الفنانة رانيا فريد شوقي عندما كانت تمثل مسرحية “بابا جاب موز” أنها مرت في طريقها ووقفت بالسيارة وأخذت تسألني عن صورة والدها إذا ما كانت من ضمن صور الفنانين على اللافته باعتباره من رواد بعرة وشعرت بسعادة لوجودها.
– من أشهر الكومبارس والذي كانت تتجمهر حولهم الناس هو حسن كفتة الذي مثل في فيلم اللمبي، ومحمد هوندا أو” عشماوي” كما عرف عنه في السينما وكان أول كومبارس يكتب اسمه على أفيش فيلم، فاطمة كشري، العتلاوي، محمد الحِلّلي الذي قام بدور “الشيف” في فيلم احترس من الخط، الصيرفي.. وغيرهم.
– مع وجود المحمول في يد الجميع تراجع إلى حد ما جلوس ذلك الكم من الكومبارس أو العاملين والفنيين على قهوة بعرة. وإن كان منهم من لا يزال يعاني مشاكل كثيرة من قلة فرص العمل، بل إن منهم من يصرف لهم بعض الفنانين مبالغ شهرية كنوع من أنواع المساعدة أو إرسال بعض الملابس والأشياء لهم في المواسم والأعياد.
– من معاناة الكومبارس أنهم تضطرهم الظروف للعمل من ٧ صباحاً مثلاً وحتى ٣ الفجر في اليوم التالي لمجرد الحصول على مبلغ ٤٠ جنيه ودون وجبة غذائية بل أحياناً يتم طلب ١٠ جنيه بديلا عنها.هذه العناصر تفتقد كذلك لوجود تأمينات لهم مع أن البعض منهم قد يتعرض للمخاطر أثناء التصوير مثل “مصطفى معارك” وهو يمثل المشاهد الصعبة كالقفز في الأفلام. وللأسف تعرض كثير من الكومبارس للنصب عندما حاول البعض إقناعهم بضرورة المشاركة في نقابة خاصة بهم وتم تجميع الأموال منهم ولم يحدث أي شيء.
– أذكر في إحدى المرات أنه أتى إلينا الفنان أحمد زكي وقام بالاتصال بواصف فايز صاحب شركة أفلام مصر العربية ليلتقيه على القهوة وجلس معهم والدي وفوجئنا بأحمد زكي يطلب من والدي أن يقوم بحصر عدد الكومبارس الجالسين على القهوة، فلما دهش وسأله عن السبب رد قائلاً: “قوم يا سيد اسمع الكلام وقولي عددهم” وبعد أن نفذ والدي ما طلب منه أخرج أحمد زكي مبلغًا كبيرًا جداً من المال وطلب من والدي أن يوزعه بالتساوي على الجميع بل وتكفّل بدفع حساب طلباتهم.
– قهوة بعرة تاريخ كبير ارتبط في الأذهان بالفن الجميل، لذلك أكره بشدة وصفها بقهوة الكومبارس أولاً لأن لهم الاحترام وجميع المهن الأخرى، ثانياً لأنه تخرج منها أجيال من المبدعين، الفنان سعيد صالح مثلا يعتبر ممن تربوا على قهوة بعرة أو مدحت صالح عندما كان يأتي بعوده ويظل يعزف أو الفنان محمود حميدة وسيارته الحمراء الصغيرة ، أو الشحات مبروك الذي كان يحرص على التدريب يوميا قريبا من هنا في نادي مختار حسين قبل بدايته في فيلم ” المرشد”. فقهوة بعرة شهدت بدايات الكثيرين وأذكر أن الفنان عادل إمام قد وبّخ أحد الأشخاص عندما تكلم عن بعرة بشكل غير لائق قائلاً: “إنت عارف يعني إيه قهوة بعرة يعني تاريخ الفن والفنانين”.
– قهوة بعرة مدرجة في الكتيب الخاص بمصر للطيران باعتبارها مزار سياحي فني، ظهرت قهوة بعرة في بعض الأفلام السينمائية مثل فيلم جري الوحوش للراحل محمود عبد العزيز في مشهد تلميع حذائه يظهر في الخلف جالساً على المكتب محمد الزناتي الكبير صاحب قهوة بعرة وكان يرتدي قميصاً أبيضاً، في فيلم “بطل من ورق” للراحل ممدوح عبد العليم. وعدة أفلام وأعمال أخرى أخرها كان مسلسل “طايع” للفنان عمرو يوسف. ومن أشهر البرامج التي صورت فيها برنامج حكاوي القهاوي للراحلة سامية الإتربي.
– شارك والدي في عدة أفلام بأدوار صغيرة وبالمصادفة أولها فيلم المساجين الثلاثة والذي رشحه له الفنان رشدي أباظة وهو بطل العمل مع الفنان محمد عوض والفنان حسن يوسف، فيلم “المدبح” وكان التصوير في منطقة المنصورية ناحية الهرم وطلب الفنان صلاح قابيل من والدي أن يقوم بدور السائق الخاص لبطلة العمل الفنانة نادية الجندي التي مثّل معها بعد ذلك عدة أفلام مثل “الشبكة” و”مهمة في تل أبيب” (الذي كان يشرح لها خريطة الهروب من إسرائيل لمصر)، مثّل كذلك في “الموظفون في الأرض” مع الفنان فريد شوقي وسمير صبري.
– بالرغم من حصولي على بكالوريوس سياحة وفنادق إلا أنه كان لوالدي الرغبة في العمل بالسينما في الإجازات وبالفعل عملت كماكير وأول مرة ينزل اسمي على تتر كان لمسلسل “وجه القمر” لسيدة الشاشة فاتن حمامة والفنان أحمد رمزي، حيث ظهرت في أحد مشاهده كماكير أيضا للفنانة فاتن حمامها أثناء حديثها مع الفنانة مادلين طبر. وأذكر عن فاتن حمامة أن كل شيء عندها بمواعيد .. الأكل، الماكياج، الراحة… وكان لا يجرؤ أحد على الدخول عليها أثناء وضع الماكياج وإذا دخل المساعد مثلاً فعليه أن يدير ظهره ولا يكون وجهها مواجهاً لوجهه، وكانت تمنع تدخين السجائر نهائياً أثناء التصوير.
– أمنية والدي أن تظل قهوة بعرة كما بدأت وكانت طوال تاريخها ملتقى للفن والفنانين، وأن تظل لها طقوسها وأصولها الخاصة في متابعة ومعرفة كل من يرتادها، وأن يكون زبائنها على درجة من الاحترام والثقة شكلاً وموضوعاً.