"عازفة الكمان".. قصة حب قتلها القدر!!

هالة منير بدير


“هي مستقلة ولا تحتاج لمن يُنفق عليها، ولعل هذا ما يخيف الرجال منها.. في البداية يقتربون منبهرين لكن بعد أن يُحَلِّقوا حولها يغشاهم نورها وحرارتها ولا يحتملون حبها للحياة والناس وحدبها على المكسورين والمخذولين”. إنها “أمل شوقي” بطلة رواية أسامة غريب الأخيرة “عازفة الكمان”، تجيد العزف وصوتها في الغناء رائع، تلتقي بـ “طارق أبو النور” المصري الأمريكي الذي هاجر بعد تخرجه من الهندسة ويمتلك مطعم بقلب منهاتن، يهوى الشعر والأدب والموسيقى ويمتلك مكتبة موسيقية وسينمائية ضخمة.

يتبادلان مشاعر الحب والاهتمام في البداية ثم يدخل طارق في دائرة من الحيرة فيما إذا كانت أمل تحبه أم لا، حتى يُصبح في صراع داخلي بين حبه وميله لها وبين سلوكها الصادم له أحيانا، فبالرغم أنه يحاول تقبل عملها وانشغالها وانغماسها وسط المعجبين والزملاء إلا أنه بالكاد يستطيع أن يطرد مشاعر الغيرة والاستياء. بالرغم من أن طارق كانت مشاعره جياشة يقدم لأمل الهدايا ويَنْظِم من أجلها الشعر، إلَّا أنها لم تبادله نفس اللهفة والاهتمام فكانت كل تصرفاتها مغلفة ببرود وتحفظ، مما جعل هاجس الحب غير المتكافئ يطارده، خاصة أن له تجربتان فاشلتان في الحب والزواج فخشي أن تتكررا.

نرشح لك: زينب عتريس تكتب: وصلة نفاق ممتاز لـ محمد الباز


ولكني أحسست من الفنان الحساس الشفاف غضبا غير مبرر في بعض الأحيان، فإنْ كان يحبها حقا؛ فلماذا لا يُقدِّر ضغوط عملها ويحاصرها باتهامات تعمُّد إهماله أو تسفيه مشاعره؟!.. فرجل في مثل ثقافته وخبرته وتحرره لا بد وأن يُميّز بين مشاعر الحب الحقيقي التي قد تخبو أحيانا تحت وطأة مشاغل الحياة، وبين مجرد علاقة عابرة. حتى بعد اكتشافه لمرضها الذي كان سببا في اضطراب مشاعرها، وتأخرها ومماطلته في التصريح بحبها له بالشكل الواجب الذي ينتظره؛ لم يجعل قلبه يلِنْ لها ويلتمس لها الأعذار عن سلوكها المُحَيِّر فيما سبق، وإنما خشي على نفسه صدمة جديدة تدفعه للانتحار. إذاً لماذا يخشى على نفسه الهزيمة والمرارة في الحب، وفي المقابل لم يترك لها الفرصة لتتأكد تمام التأكد من حقيقة مشاعرها؟!

أعتقد أن الكاتب كأنما أراد إظهار طارق أبو النور ضحية تلاعب أمل بمشاعره وتجاهل لهفته وشوقه، بينما لم يصلني شعور أن الكاتب قد قام بتحميل طارق أي نوع من لوم النفس وتأنيب الضمير، فطارق لم يُسامح أمل ولم يخفق قلبه عند تصريحها بحبها له، وإنما مشاعر الخوف من هزيمة ثالثة طغت على كل ما يُكنه لأمل من حب إذا لم تكن صادقة هذه المرة أيضا، إذاً فقد نحَّى كل العواطف جانبا طالما كانت تحت وطأة ضعط ما، مثلها تماما عندما كانت لا تستطيع التعبير عن عواطفها لضغوط العمل واضطرابات المرض.

الرواية ناقشت “مِصرية” المرء التي تطارده أينما حل، فهي كاللعنة التي لا فكاك منها، عرضت أحوال وأنواع المهاجرين المصريين في أمريكا، كما ورد بها شق سياسي عن الفساد والأسباب التي تدفع المصري للهجرة من سيطرة أصحاب المال والنفوذ. أما الحوار فكان شديد الروعة، على قدر كبير من الانسيابية والتسلسل والترابط، ملأى بالمشاهد اللطيفة الخفيفة، بالإضافة إلى المواقف التي تثير الشجن، ضمت الرواية قصيدة بعنوان “عيناك كأنهما قدري” من أروع وأعذب الكلمات والمعاني، عبَّرت عن وَلَه العاشق وهيامه بمحبوبته بصدق شديد. كما ذكر العديد من أسماء النوادي والجسور والمسارح والمدن والأنهار والمطاعم والفنادق والشوارع، مما جعل القارئ وكأنه يحيا مع أبطال الرواية يذهب معهم أينما ذهبوا.

نهاية الرواية جاءت صادمة مفاجئة، كما فاجئني طارق بموقفه أيضا، أعتقد أن محبا صادقا جياش المشاعر مثله كان ليتصرف تصرفا مغايرا لما قام به طارق أبو النور في النهاية، ولكن هذا التصرف أيضا عزز فكرتي عنه أنه كان يفكر في الحب من أجل استقراره العاطفي فقط، وليس من أجل شريكين يتبادلان نفس العواطف ويفنى أحدهما في الآخر دون مقابل، ويبقى من أحدهما بعد فناء الآخر جزءا يحيا معه بإخلاص.


اقتباسات أعجبتني

– “مصرية المرء لعنة لا فكاك منها حتى لو سافر وهاجر وانقطع عن الوطن الأم.. هناك أشياء في الجمجمة لا مهرب منها”.
– “كيف يمكن لفنانين موهوبين أن يغنوا وسط أناس تأكل وتشرب وتتجشأ ولا يتبقى من انتباههم للفن غير ربع وعي في أحسن الأحوال”.


– “ما معنى الحب إذا لم يحمل كل شخص على تغيير بعض صفحات من أجندته؟”.


– وهل الحياة مباراة يتعين الفوز بها وسحب من نحب إلى ملعبنا حتى يضعف ويتهافت وبهذا نضمن أن نحظى بحبه واهتمامه؟”.


-“وكأنما لا يُكتب للإنسان أن يعيش لو نجح في حل متناقضاته واعتزم أن يوقف الجموح ويحيا في هدوء”.
– ” قد يفقد الإنسان استحقاقه للحياة لو نوى أن يخرج بها عن كونها حياة (أي مريرة) وقرر أن يتجه بها صوب الفردوس”.
-“لم أكن فقيرا في مصر لكني لم أحتمل سيطرة القراصنة على الحياة هناك، وكرهت فكرة أن أقضي بقية عمري وسط أناس يكذبون- بفعل الفقرـ كما يتنفسون”.


-“ما يجعل هذا المكان وطنا رائعا هو سلطان القانون الذي يسري على الجميع، والمساواة في الفرص التي تجعل للكفاح والتعب مردودا مجزيا”.


– “جزءا من وظيفة المسرح والسينما هو إطلاق المشاعر، لذلك فمن حق الناس التعبير عن مشاعرها دون أن يعترضها منافق أو متزلف.. أو حتى متعاطف حقيقي”.


– “الطلاق فيما يبدو ليس بسيطا، وقد يعتبره بعض الناس بمثابة هزيمة، هو فشل يعادل خيبة أمل المقامر في الحصان الذي وضع عليه كل فيشه، فالإنسان حين يتزوج فإنه لا يدخر فيشا في جيبه لمرات قادمة، وإنما يراهن على شريك الحياة بكل ما يملك، لذلك فإن عملية انتهاء الزواج مهما كانت ودية فإنها تحمل انهيار آمال ظلت واعدة لمدة طويلة”.
– ” الصادقون من البشر هم الذين ينتحرون.. أي شيء خلاف هذا هو مجرد محاولات فاشلة لبلوغ الصدق المستحيل”.

أسامة غريب: عازفة الكمان تيتانيك مصرية