محمد حسن الصيفي
يرتدي البدلة الحمراء، يسحبه عشماوي إلى غرفة الإعدام، يتمتم بالشهادتين، يرتجف، يتصبب عرقًا، تفوح منه رائحة الموت، تُطل من عينيه، تنهش قلبه، يوضع تحت الحبل، يقوم عشماوي بتغطية رأسه بالغطاء الأسود، يسحب العصا بقوة، لتبتسم “الطبلية الخشب” فتكشف عن فِيها الكبير ثم تلتهمه في سعادة غامرة …
هذا ما حدث لمحمد كامل في فيلم المغتصبون، الفيلم الذي نجح نجاحًا مخيفًا وقتها، وظل عامًأ كاملاً في السينما، الفيلم الذي عالج قضية حقيقية حدثت بالفعل “لفتاة المعادي” على الكورنيش، وقدم علاجًا ناجحًا للمجتمع يعرف في الأوساط الطبية بالعلاج ب “الصدمة”.
وهو الذي دفع سعيد مرزوق مخرج العمل للذهاب إلى زكي بدر وزير الداخلية آنذاك ليطلب التصوير داخل تلك الغرفة التي توزع الموت مجانًا مثل بابا نويل في ليلة رأس السنة.
وهو الذي دفع مرزوق أيضًا لارفاق ملف القضية بالكامل مع السيناريو ليقرأه الأبطال المشاركون في العمل وعلى رأسهم محمد كامل وجميلة الشاشة ليلى علوي ومجموعة أخرى من الفنانين المتميزين.
نرشح لك.. قصص 5 أغنيات لفيروز في عيد ميلادها الـ 83
تتغير ملامح كامل وهو يصف لصاحبة السعادة الأجواء المحيطة بتصوير الفيلم “لقد حصلت على جائزة عن دوري في هذا الفيلم، لقد كان خوفًا حقيقيًا، كنت أشعر أنني سأموت فعليًا أثناء تصوير هذا المشهد”
وأي مشهد هذا الذي يؤديه كامل، وأي عبقرية، أي موهبة مثل التي كان “معجونًا” بها؟!
جاء المشهد حقيقيًا، صادمًا، مخيفًا حد الهلع لرجل تلبّس بحالة الموت وتشبع منه ففر الموت من عينيه وسرى في جسده وقفز منه إلى قلب المشاهد …إليك الحكمة “التفاصيل، ثم التفاصيل، ثم التفاصيل التي تنقلك لتسكن في قلب الأفكار…
كامل الذي جسّد ذروة الإبداع الفنّي في هذا المشهد، وهو بلغة هوليوود العالمية يستحق أوسكار بلا مبالغة أو جدال ولعدة أسباب؛ لم ينل بعد ذلك ما نالته نظرة حمدي الوزير الشهيرة، التي ربما كانت سبب في عودة الوزير لحلبة التمثيل والمجيء من بعيد، رغم أنه كان مساعدًا في الفيلم ل “شوقي حسن أبو حلاوة” في الإجرام، والمفارقة الأهم أن الأخير كان يلعب الدور باسم “جميل” !
نعود لكامل مواليد 1944 خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، صاحب اللقاءات النادرة، والتصريحات الأكثر ندرة.
كامل الذي كان يلعب الأدوار من منطقته الشخصية وبأفكاره وتصوراته، فقام بدور اللص والبلطجي بشكل متفرد، شق بطن كلاسيكية الدراما والسينما فيما يخص البلطجي؛ فخلق على يديه وملامحه وجسده الواهن بلطجيًا محبوبًا، خفيف الظل، مرح، لديه حضورًا طاغيًا، فلا هو منتمي إلى فتوات الأربعينات والخمسينات في عالم روايات نجيب محفوظ، والذي يطل علينا فريد شوقي “وحش الشاشة” كأكبر نماذج تلك المرحلة، ولا هو على شاكلة وتنويعة السقا أو محمد رمضان أصحاب العضلات والقفز والحركة والإثارة …
هو البلطجي الذي لا يشبه غيره، كاسر التابوهات، ملك التنويعات… ف “قنديل” شارع عبد العزيز
ليس مرسي اللص الجدع صاحب صاحبه في “عباس الأبيض في اليوم الأسود”
ليس ممدوح الطلياني الشهير ب “دحة” في عفاريت السيالة
في كل دور له بصمته، أضاف الرجل على البلطجة مساحيقه الفنيّة الجميلة، فلا تمل مشاهدته كبلطجي، بل ترحب بالمزيد، تعبيرات وجهه الممتعض، أو المندهش أو الخائف .. مبهرة في كل الأحوال.
في شارع عبد العزيز يقتبس شخصيّة قهوجي كان يعرفه ودرس شخصيته فخرجت بهذه الروعة وهذه التلقائية، في عفاريت السيالة يضغط على بعض الأحرف، يُرقق الصاد ويحولها إلى السين في نداءه إلى “صفاء” زوجة صديقه “غريب الدش” فأصبح مجرد نطقه للإسم إفيه في حد ذاته لا يُنسى.
وفي عباس الأبيض نهمه للطعام نظرًا لفقره الشديد، ونداءه المتكرر للفخراني ب “عِبس” و “طاقيته” المعروفة عن اللصوص أضفت له سحرًا وبساطة شديدة.
يقول كامل: حين سألوا الممثل العالمي “جاك نيكلسون” عن الدور الصعب أجاب أنه ذاته الدور السهل.
وعلى ذلك هو ميّال نحو الطريقة الفريدة في خلق الشخصيات العادية وتحويلها إلى مصنع محمد كامل الذي يعمل بالطاقة المتجددة، الذي يستطيع كما نقول بالعامية “يعمل من الفسيخ شربات”.
فهو الضابط بكل الوقار والحزم ببدلته السمراء الأنيقة في رأفت الهجان، وهو الشيخ زكريا أحمد بكل البشاشة والإبداع لدى “أم كلثوم”
وهو الصحفي فؤاد الصالح في “جاءنا البيان التالي”، وهو صديق “الليل وآخره” المقرب للفخراني، ومساعد الفيشاوي في “على الزيبق” أحد أهم وأنجح المسلسلات التاريخية التي قدمت على الشاشة الصغيرة.
عشرات الأدوار، بعشرات الأفكار، بتكرار مستحيل أن تراه مع محمد كامل، الذي وصل إلى الكمال في التمثيل، وأبدع وقدم لنا التمثيل بخلفياته النفسيّة المعقدة على أنه وجبة سهلة الهضم، واجتهد أيما اجتهاد في عملية الزرع الشاقة، ورمي بذور الشخصيات، لنكتفي نحن بالمشاهدة الممتعة لصديق البطل الذي يقوم “ببل ريق” العمل الدرامي بنكتة أو إفيه أو فكرة حمقاء من رحم الجدية الشديدة فلا تملك سوى الابتسام أمام هذا المنتج الفني عالي الجودة.
ورغم براعة كل مشاهد كامل في كل الأدوار التي أداها مات في صمت وهدوء في السادس والعشرين من يوليو 2016 على طريقة القطف اللذيذ من حدائق الورد، ورغم موته المرعب الذي جاء كبروفة في المغتصبون؛ لم يلتفت إليه أحد ومات مرة أخرى بعدها بسبعة وعشرين عاما، لكنه كان الموت الأخير، وأيضًا دون أن يلتفت أحد، لكنه ربما الموت الذي سيخلده للأبد في تاريخ الفن.
شاهد: أبرز أعمال الفنان القدير حسن حسني بمناسبة تكريمه في مهرجان القاهرة السينمائي