لسبب غامض يسوؤني دائمًا قولهم: النبي عربي!!..
من المؤكد أنه يسعدني أن أدّعي انتسابي واشتراكي مع هذا الرجل العظيم في أي رابطة كانت. ولكن لا أظن أن هذا مما يفخر به الرجل لو قدّر له الله أن يعود ليعرف أن هؤلاء المتدروشين بحبه هم أدنى أهل الأرض علمًا وقدرًا وعدلًا وأخلاقًا. وأن يرى ما آلت إليه رسالته العالمية التي بعثه بها الله للبشر أجمعين، وأن تكفل لهم العيش بسلام في جوار من الإنسانية والمحبة. فاختزلنا رسالته وأقواله على مقاسنا وأضفنا إليها من عاداتنا وتقاليدنا العجيبة وأعطيناها ذات الاسم الذي أطلقه الله على رسالات آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأخيرًا محمد.ثم رحنا ندافع عن تلك المسوخ التي أفرزها تخلفنا تحت دعوى الدفاع عن الإسلام.
يا أعزائي.. ليس محمد هو صاحب الإسلام الأوحد، ولا المسلمين هم أصحاب الدين، ولا جاء الإسلام للمسلمين فقط، بل جاء على شقين: المعاملات، وهي الشق الأكبر منه، وهي التي أرسلها الله للجميع ليطبقها أي إنسان فتستقيم حياته أي كانت ديانته.. فهل يؤذي إنسان أن يكون صادقًا عادلًا رحيمًا أمينًا إلى أخر الصفات الحميدة؟!. والشق الثاني هي العبادات التي افترضها الله على المؤمنين به وهدفها الأساسي أن يسلم الإنسان قلبه لله فيتمكن بالتالي من تنفيذ أمثل وأقدر للمعاملات العظيمة التي يرضى الله عنها مع البشر الذين هم في كل الأحوال خلق الله بلا تمييز!!
على أي حال..ليس هذا موضع نقاش حول الدين بقدر ما هو مراجعة لبعض مما كتبه كتّاب وفلاسفة الغرب عن محمد بن عبد الله الذي نؤمن أنه آخر رسل الله ويؤمن بعضهم أنه مصلح تاريخي كبير ويجزم آخرون أنه ليس سوى مخرف دجال!!. وليتنا نكف عن الدفاع عن الرجل فنلتفت للعلم والعمل فهو خير وأولى.. وهو أفضل دفاع عنه.
حين قرأت “حياة محمد” للأستاذ محمد حسنين هيكل. وهو من أبدع كتب السيرة. وكنت وقتها حديث السن هالني أن أجد الأستاذ وقد أفرد ملحقًا بالكتاب يرد فيه على تخاريف المستشرقين وأباطيلهم. أقول هالني ذلك، لأني لم أتصور -في ذلك العمر- أن يعيب أحدٌ على رسول الله أو يقدح في رسالته. فقد نشأنا على احترام الأنبياء -جميع الأنبياء- وبعد أعوام ظللت أجد بين الحين والحين مقالات وكتب غربية -محايدة- تتحدث في السيرة، فيسرني أن أرى وطننا ورجالنا ونبينا بأعين مختلفة، وأجد بسبب ذلك تفسيرات كثيرة لأحداث مهمة في التاريخنا لا تتضمنها كتب السيرة القديمة وبالتالي المعاصرة.
ولا أنكر أن ذلك كان يضعني بين الحين والآخر في معترك مؤلم من الأفكار سببه الغضب الشديد من بعض ما أقرأ والذي يتعدى المنطق إلى الظلم والجور في الحكم لا لشيء إلا لكراهية يحملها الكاتب نحو المنطقة، بسبب خلفية دينية أو اقتصادية أو سياسية.. ولعل ذلك –الغضب وأسبابه- كما أذكر هو ما تعرض له الأستاذ العقاد ذات يوم فكان دافعًا لكتابة مؤلفه الخالد “عبقرية محمد”.
وللإنصاف فإنك تستطيع أن ترى ابتذال بعض هذه الكتابات أو رقيها مرآة لما يعيشه المجتمع الذي تكتب فيه هذه المؤلفات. وكمثال على ذلك فيمكنني الاستدلال بما ذُكر بقلم الأستاذ “بهيج ملا حويش” -مؤسس المركز الإسلامي في إسبانيا- ضمن ملف “صورة العرب والمسلمين في المناهج الدراسية حول العالم” والذي كان ملفًا ضمن صفحات مجلة المعرفة السعودية في العام 2003 قبل أن يحقق دويًا ضخمًا فتصدره المجلة بعد التنقيح ككتاب منفصل.
يذكر حويش في فصل “إسبانيا” أنه يمكن تصنيف المناهج الدراسية بحسب الأنظمة السياسية المتتالية فلكل نظام منها خصائصه وأولوياته. فيذكر أنه إبّان الحكم الشيوعي للبلاد عزل النظام الشيوعي الملحد العائلة المالكة عن الحكم وأقصى الكنيسة عن الحياة العامة لذا كان من الطبيعي ألا يرد ذكر الإسلام إلا في مجال الهجوم على الأديان، فكان يمكنك أن تطالع في بعض القواميس تعريفات بالقرآن تصفه بأبشع الأوصاف، بل وتدعي معرفة بمؤلفيه فتذكر أسماءً تدعي أنها من كتب القرآن ومنهم الأريسي ومنهم اليهودي وبالطبع منهم الشرير الفاسد “محمد”!!.
وفي المرحلة التالية حين تمكن الجنرال فرانكو من السيطرة على مقاليد البلاد. أوكل الحاكم العسكري قضايا التعليم والأحوال الشخصية للكنيسة الكاثوليكية الإسبانية ومن تحت جناح الكنيسة كان هناك تيار تسمى باسم “المنشأة الإلهية” تمكن بعد قليل- ودون الخوض في التفاصيل السياسية والتربوية- من السيطرة على الجامعات ثم الحكومة، وتسبب ذلك في استقلال مدارس التعليم الأساسي والمعاهد المتوسطة، مما تسبب في مزيد من تشويه الإسلام. فكان يمكنك أن ترى رجلًا بشع الخلق والخلقة والغايات ولا يكون سوى محمد النبي الذي يفتتن به العرب الجهلاء. وللأسف أن هذه المناهج كانت تجافي المنطق بكل الأشكال. فمثلًا حين تتعرض لتحريم الخمر والخنزير في الإسلام فهي تذكر أن ذلك كان بسبب أن “محمدًا كان ثملًا ذات يوم فعضه خنزير ولما استفاق حرّم الخمر والخنزير معًا”.
ولا يجد أي باحث جاد أي مصدر يذكر أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) قد عاقر الخمر يومًا. ولا كانت الخنازير تغشى البيوت والأزقة في مكة ولا المدينة. ولكنه صوت الجهل والحقد الذي لا مبرر له.
ثم انتقلت إسبانيا للحقبة الديموقراطية، فصار بوسعك أن تقرأ في المناهج عن محمد على أنه “الداعي إلى المثل الأخلاقية، الذي أوجد مدرسة متوافقة مع العقلية العربية، بديلًا عن مناهج سابقة كانت تذكر أن محمدًا لم يجد حلًا لحالة الفقر التي حلت بالمهاجرين سوى التفرغ للقتل والنهب والانتقام”!!
على أي حال دعنا نعود لبعض المنصفين من كتّاب الغرب. ولما كنا نحتفل بالمولد النبويّ الشريف فدعنا نطالع بأعين الغرب وبأعين دكتور الفلسفة في جامعة أوكسفورد السيدة كارين أرمسترونج بعض ما ذكرت عن الأحوال وقت ميلاد محمد (صلى الله عليه وسلم) في كتابها الأشهر “محمد” الذي صدر في نيويورك عام 1992، ثم صدر بالعربية بعد ذلك بقليل من ترجمة د. فاطمة نصر ود. محمد عناني. وكلاهما ليس بحاجة لتعريف.
يتضمن الكتاب عشرة فصول غير الهوامش والمراجع تبدأ بالفصل الأول: العدو محمد، والذي تعرض فيه النظرة التاريخية للنبي في العرب. ثم فصول: محمد رجل الله- الجاهلية- الوحي- النذير- افتراق الطرق-الهجرة قبلة جديدة- الحرب المقدسة- السلم المقدس- وفاة الرسول.
وكما ذكرت بما أننا في ذكرى الميلاد للرجل العظيم، فإنني أقصر حديثي على فصل واحد من فصول الكتاب وهو الفصل الثالث: الجاهلية.
في فصل “الجاهلية” تذكر أرمسترونج الكثير عن الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تسير في اتجاه يتنامى تصاعديًا متهيئًا لاستقبال الانقلاب التاريخي الذي سيحدث في الجزيرة العربية في غضون نحو 60 عامًا هي مدة حياة أخر الأنبياء إذا أضفنا إليها أربعين عامًا قضاها الرجل بلا رسالة قبل أن يتلقى الوحي.
تقول أرمسترونج: “تعتبر بلاد العرب اليوم من أغنى مناطق العالم، وتحرص الدول الكبرى على حماية مصالحها النفطية فيها. أما حين ولد محمد، في مكة، في عام 570م، فلم تكن الدولتان العظميان في المنطقة تكترثان لبلاد العرب”!!.. فلم تهتم الفرس أو الروم بعقد تحالفات مع العرب باستثناء جنوب الجزيرة حيث اليمن المطيرة المتمتعة بالخصب والزرع. أما باقي الجزيرة وسكانها غير المستأنسين والذين أطلق عليهم اليونان لفظة “ساراكينوي” أي سكان الخيام فلم تلتفت إليها الأنظار”ولم يدر بخلد أحد أنها أوشكت على إنجاب دين عالمي جديد”.
تروي أرمسترونج بأسلوبها التحليلي المشوق الرحلة الطويلة التي قطعتها القبائل العربية من التنقل كبدو رحّل إلى تكوين أشكال بدائية لمدن. وعن قيام الأخلاق العربية وأهمها “المروءة” مقام الأديان والقوانين عند الأنظمة الأخرى.”وكانت المروءة تفي بالكثير من مهام الدين، إذ زودت العرب بعقيدة فكرية، مما وهب وجودهم الذي تكتنفه المخاطر معنى له وزنه، كانت المروءة دينًا راسخًا، فالقبيلة هي القيمة المقدسة له، وكان لون الخلود الوحيد المتاح للرجل هو خلود القبيلة واستمرار روحها”.
ثم تروي عن تأسيس قريش لحكمها الكبير لمكة على يد جدها الأول “قصّي” وأخوه “زهرة” وعمه “تيم” “وبدأت قريش تعمل بالتجارة، وكانت تمزج بين التجارة وتربية الحيوان. وكان موقع مكة مثاليًا لمن يريد مزاولة الأعمال التجارية طويلة الأجل. فمكة تقع في مكان متميز، عند ملتقى الطريقين الرئيسيين للتجارة” وتذكر أن أحد أسباب النجاح هو عدم سماح قريش لأي من الدولتين العظميين باستغلالها لتتجنب الانصهار فيهما والذي انتهت إليه مملكة الجنوب.
وعن عام الفيل الذي ولد فيه الرسول وعن حملة أبرهة الحبشي على الكعبة لهدمها لطمعه في استقبال الحجيج في معبده الجنوبي. تقول أرمسترونج: “لكن الأعراب كانوا يستريبون من اليهودية والمسيحية وأتباعهما حتى مع إدراكهم أنهما أكثر تقدمًا من دينهم،كما كانوا يعلمون أن القوتين العظميين قد تجهزتا لاستعمال الديانتين (الزرادشتية والمسيحية) في السيطرة الامبريالية”!!. وهو ما حدث في الجنوب إذ صارت المملكة الجنوبية ولاية من ولايات الحبشة الحليف الروماني.
وتروي عن حملة أبرهة:” يبدو أن أبرهة الحاكم الحبشي للجنوب، تملكته الغيرة من النجاح التجاري الذي أصابته مكة فحاول غزوها. وعلى ما اكتسبته الحادثة من زركشة أسطورية، فيبدو أن أبرهة قد أدرك دور الكعبة في نجاح قريش فقرر تحويل الحجاج إلى معبده المسيحي في صنعاء حتى يجتذب المزيد من التجارة”. وتقول عن الكعبة: ” قد يبدو ذلك غريبًا لمن نشأ في مجتمع علماني مثلنا، ولكن الكعبة والطقوس المرتبطة بها كانت فيما يبدو تفي بحاجة روحية ونفسية لدى العرب”.
ثم تستعرض بالتفصيل الأوضاع الاقتصادية لمكة وقريش وانعكاس ذلك على الحياة الروحية وقت ميلاد محمد (صلى الله عليه وسلم):”لم يكونوا قد ابتعدوا بأكثر من جيلين عن فقر حياة الرحل، ولكنهم صاروا يعتقدون أن المال يستطيع إنقاذهم. ولكن بعض أفراد الجيل الصاعد لم يكونوا راضين عن ذلك. وكانوا يبحثون عن حل جديد، روحي وسياسي”.
لذلك وفي مطلع القرن السابع عندما تخلى أغلب العرب عن حياة الترحال القديمة وبدأ “الوعي بالمشكلات الاجتماعية لحياة الاستقرار أتى نبي الإسلام برسالة جديدة إلى العرب”.
ولكن هل حين جاء النبي كانت الدعوة للوحدانية غريبة على مجتمعه؟! الحق أن الأقدار كانت تهيء العرب لاستقبال الرسالة التاريخية فتذكر أرمسترونج أن أربعة من الشباب قد قرروا أن قومهم قد أفسدوا دين إبراهيم. ومنهم عبيد الله بن جحش ابن عم النبي، وورقة بن نوفل ابن عم زوجه والذي فسر لهما بعد ذلك بأعوام طويلة رؤية الوحي وبشر محمد بالنبوة. وعثمان بن حويرث التاجر الثري. ورابعهم زيد بن عمرو الذي ترك وطنه وساح في الأرض يسأل كل راهب وحاخام عن الدين الصحيح “وأخيرًا قابل راهبًا أخبره أن الوقت قد حان لظهور نبي في مكة يبشر بالدين الذي يبحث عنه، وعاد زيد أدراجه لكنه تعرض لحادث عن حدود سوريا الجنوبية، ومات قبل أن يقابل محمدًا، ولكن ابنه سعيدًا أصبح من أخلص صحابة النبي”.
وتفسر الكاتبة ظهور محمد في مكة بعد استقرارها فتقول: “كثيرًا ما يقال إن الإسلام دين الصحراء ولكن ذلك غير صحيح. فقد تلقى عرب مكة الدين الجديد أول الأمر في جو من الرأسمالية القائمة على التناحر والتنافس في دنيا المال والأعمال.كان الإسلام نتاج المدنية ، شأنه في ذلك شأن الأديان الاعترافية والعقلانية الفلسفية اليونانية. وقد يبدو ذلك غريبًا لأننا درجنا على اعتبار عزوف عيسى عن العالم هو خلاصة الروح الدينية، لذلك فلا نتوقع ظهور نبي في الأحياء المالية مثل لندن أو نيويورك.ولكن لك أن تعرف أن جميع الديانات، وأن الفلاسفة اليونان كانوا يعلمون الناس في الأسواق.وكذلك كبار أنبياء بني إسرائيل. لقد نشأت الأديان العالمية كلها في المناخ التجاري للمدن.في الوقت الذي بدأ فيه التجار في انتزاع بعض السلطة التي تكون للملوك والطبقات الارستقراطية والكهنوتية،فكان الازدهار يلفت الناس إلى التفاوت بين الأغنياء والفقراء، ويثير قلقهم إزاء مشكلات العدالة الاجتماعية”.
وتختتم الفصل بأن زيدًا قبل ترحاله وقف متكئًا على الكعبة ثم قال: “(إلهي! لو أنني أعرف كيف تريدني أن أعبدك لعبدتك العبادة التي ترضاها، ولكنني أجهلها) ولم يلبث دعاء هذا العربي أن أصبح من الدعاء المستجاب”
مرة أخيرة أقول أننا بحاجة لإعادة النظر في انتساب النبي –كصاحب رسالة- لنا وانتسابنا إلى رسالته العظيمة. ولا أنسى المقولة التي ختم بها الأستاذ يوسف السباعي إحدى قصص مجموعته البديعة الشيخ زعرب. حين كان الدرويش ينظر باستهزاء إلى الجموع التي تهتز في حلقة ذكر في المولد. فيقول البطل لنفسه: “تزاوجوا وتكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة.. أهذه هي الأمة التي ستتباهى بها؟!.. أشد ما أخشى أن نخذلك يا رسول الله”!!..
كل عام وأنتم بخير على أي حال!!..