أكتب إليكم هذه الكلمة من حجرتى الصغيرة فى فندق صغير جدًّا بمدينة «كان» التى تطل على أروع شواطئ الدنيا «الريفييرا»، بينما الحجرة التى أقطن بها تطل على أكثر أماكن الدنيا إزعاجًا وازدحامًا وهى محطة القطار الرئيسية فى مدينة «كان»، تتسلل إلىّ كل الأصوات واللغات، إذ إن شبّاك الحجرة يبدو وكأنه يلتصق برصيف المحطة، الذى يتحول من مجرد «خُن» صغير إلى شارع «كوزموبوليتان» مترامى الأطراف.
عمرى فى المهرجان 24 دورة بينما المهرجان يحتفل ببلوغه 68 عاما، بينها فى هذا الفندق خمسة عشر عاما فى نفس هذه الحجرة، أنا بالطبع عِشَرى وللأماكن بداخلى اعتزاز خاص، ولكن ليس بسبب العِشرة فقط أقيم فى نفس الفندق طوال تلك السنوات، هناك أيضًا ميزة مهمة جدًّا وهى أن فاعليات المهرجان تبعد نحو 7 دقائق سيرًا على الأقدام عن مقر إقامتى.. ميزة أخرى لا تقل أهمية وهى أن تكاليف الإقامة فى هذا الفندق تعتبر هى الأرخص نسبيا.. الرقم قياسًا بالفنادق الأخرى الأكثر هدوءًا أو التى تطل على البحر يعتبر مغريًا، خصوصًا أن كل شىء فى «كان» يرتفع ثمنه إلى الضعف فى أثناء المهرجان.. صاحب الفندق أطلق عليه اسم «قريتى»، القرد فى عين أمه غزال، والفندق المتواضع فى عين صاحبه قصر. صاحب الفندق من أصل جزائرى وإن كان لا يعرف من العربية سوى «السلام عليكم» و«الحساب كام» و«الدفع مقدما». الفندق كما هو مدوّن تحت اسمه من فنادق النجوم الاثنتين فقط، وإن كنت أعتقد أنه لا يزيد على نجمة واحدة، هذا لو استحقها.. الحجرة متران فى متر ونصف وملحق بها حمام صغير..
توقعتم بالطبع أن أحدثكم عن أفلام المهرجان وليس حجرتى، فيلم الافتتاح يعرض بعد ساعتين، انتظرونى أتناوله فى الرسالة القادمة، إلا أن ما دفعنى هذه المرة إلى الحديث عن الفندق هو أننى قبل المهرجان كنت أشارك فى ندوة صحفية فى إحدى دول الخليج.. والدعوة التى تلقيتها شملت الإقامة فى فندق وهو واحد من أفخم فنادق العالم.. كان لى جناح خاص، وهناك العشرات ممن يعملون بالفندق لا هَّم لهم سوى أن تتوافر لدى كل أسباب الراحة الكاملة. كان لدى متسع من الوقت قبل وبعد الندوة لا يقل عن اتساع جناحى فى الفندق الذى كنت أقيم فيه.. الآن ضاق جدا مكان الإقامة وضاق الزمن جدا جدا، إذ تتلاحق الأفلام والندوات واللقاءات ورغم ذلك فأنا أصبحت لا أطيق أن أعيش بيولوجيًّا ومنذ 24 عامًا بعيدًا عن أجواء «كان».. الحجرة الضيقة المزعجة أصبحت بالنسبة لى من أروع الأماكن التى أمضى بها أسبوعَى المهرجان.. حتى الإزعاج أو ما يراه الآخرون إزعاجًا صار بالنسبة إلىّ يشبه أصوات البلابل والعصافير التى يعلو نشيدها فى الصباح.. بينما النشيد المنبعث من محطة القطار الدولية لا يتوقف عن الغناء طوال ساعات الليل والنهار.. أن تنتقل من فيلم إلى فيلم ومن ندوة إلى أخرى وأن تقرأ فى اليوم الواحد أكثر من خمس نشرات صحفية تتعرف من خلالها على كواليس الفن والفنانين العالميين، أراها متعة أحظى بها ولا أستطيع التفريط فيها.. أصبحت المعاناة تشبه تعاطفى مع فريد الأطرش وهو يغنى لهند رستم فى فيلم «الخروج من الجنة»: «لقمة صغيورة تشبعنا وعش العصفورة يكفينا».. فأنا أعيش فى عش العصفورة وإن كنت لا أكتفى بالطبع بلقمة «صغيورة»، خصوصا أن العيش الفرنسى يغرى بالتهامه حتى دون «غموس».
مهرجان «كان» هو الإدمان الذى لم أستطع حتى الآن أن أتخلص منه ولا أفكر أبدا فى الشفاء منه ولا أسعى حتى فى الانتقال إلى عش آخر أكثر اتساعا ما دام عش العصفورة يقضينى ورغيف فرنسى مقرمش يشبعنى وزيادة.. جرّب كده قضمة!
نقلًا عن جريدة “التحرير”