ياسر عبد العزيز
نقلًا عن “الوطن”
إذا كتبت اسم «علياء المهدى» على محرك البحث «جوجل»، فسيظهر لك 891 ألف رابط لأخبار وموضوعات وصور عنها، وهو أمر يشير إلى «شخصية مهمة» بكل تأكيد، إذا أخذنا فى الاعتبار فكرة «مؤشر الأهمية الرقمى»، الذى يقيس أهمية الأشخاص، وربما حجم تأثيرهم، انطلاقاً من عدد الموضوعات المنشورة عنهم على محرك البحث الأشهر فى العالم.
لكن الغريب حقاً أنك ستفاجأ بشدة عندما تنقر على تلك الروابط، إذ إنها لن تخرج عن ثلاثة أخبار تكررت، وراجت، وشغلت الناس وملأت الدنيا عن تلك «الناشطة»، التى لا أعرف عنها، بعد البحث المكثف، سوى ما تقوله تلك الأخبار الثلاثة والصور الملحقة بها.
يفيد الخبر الأول، مشفوعاً بالصور، أن «علياء» نشرت صورها عارية على مدونتها فى العام 2011، تعبيراً عن احتفائها بـ«الحرية»، فيما يوضح الخبر الثانى أنها وقفت عارية تماماً أمام السفارة المصرية فى السويد، فى العام 2012، احتجاجاً على الدستور المصرى الذى صدر آنذاك، ورأت أنه مناهض لـ«حرية المرأة»، أما الخبر الثالث فيتعلق بنشر صورتها عارية تماماً أيضاً على علم «داعش»، فى العام 2014، فى إعلان عن رفضها لـ«الإرهاب».
تعد تلك حصيلة باذخة ومرضية حقاً، لفتاة مغمورة تماماً، استطاعت أن تصنع اختراقاً مثيراً، وتسجل نفسها فى قوائم «الأهمية»، وتتداول أخبارها وسائل الإعلام العالمية والمحلية، بمجهود بسيط وتافه، لم يتجاوز حد خلع ملابسها.
تبدو «علياء» هنا وكأنها تاجر موهوب وشاطر، استطاع من دون رأسمال تقريباً أن يحقق أرباحاً ضخمة، وبسبب فهمه لآليات السوق التى يعمل بها، فهو ينوع فى مقارباته، متلاعباً بغرائز المستهلكين، التى يدركها جيداً.
تلك لعبة سهلة، فبقدر ما تتعرى، يحتفى الجمهور «التافه» بك، وينزلك منزلة الأهمية، ويرفعك إلى مقام المشاهير والمؤثرين.
فى الأسبوع الماضى، حدثت وقائع كثيرة مهمة، لكن «التريند» المصرى، الذى يعبر عن أهم انشغالات جمهور وسائط التواصل الاجتماعى، أفسح صدارة قوائمه لخبر وصورة، يتعلقان بملابس ارتدتها فنانة مجيدة من فنانات الصف الثانى فى مصر تدعى “رانيا يوسف”، لأنها ببساطة اختارت أن تظهر بسيقان عارية، وأن تبرز مساحات من جسدها يصعب على كثيرات إبرازها، فى طلتها على سجادة مهرجان القاهرة السينمائى الحمراء.
نرشح لك: أحمد فرغلي رضوان يكتب: ليلة الاثنى عشر عامًا.. وهزيمة الديكتاتورية
لماذا حدث ذلك؟
أولاً: تريد تلك الفنانة أن تحصد شهرة ورواجاً، وأن ترى اسمها متداوَلاً على أوسع نطاق، وصورتها «مُشَيّرة» على هواتف أفراد الجمهور، وأن يتذكرها المنتجون وصُناع الأعمال الفنية، ويمنحوها أدواراً، تعوض بها الغياب وأفول النجومية وتراجع العوائد المالية.
ثانياً: تعرف تلك الفنانة أن قطاعات غالبة فى الجمهور لا تحفل بمهرجان السينما، ولا تهتم بأسماء الضيوف الأجانب المشاركين فيه، ولا تكترث بالقيمة الفنية للأعمال المقدمة خلاله، بقدر ما تهتم بالسيقان العارية.
ثالثاً: لقد ظهرت هذه الفنانة فى مشهد الافتتاح بملابس لائقة محتشمة، فلم يهتم بها أحد، فقررت أن تعوض هذا الأفول والظهور الباهت، ففجرت قنبلة كتلك التى تستخدمها الميليشيات فى العمليات الخاطفة محدودة الموارد وفقيرة التخطيط، بحيث تحدث أكبر ضجيج بأقل تكلفة، وعادة ما تُسمى تلك القنابل «الأسلحة القذرة».
رابعاً: أدركت تلك الفنانة (كتاجر موهوب وشاطر) أن صناعة الإعلام فى بلدنا مأزومة، وأنها تفرد المساحات الكبيرة للأخبار التافهة، وأن غرف الأخبار فى المواقع الإلكترونية تهتم بملاحقة «التريندات» على وسائط التواصل الاجتماعى، وكلما وجدت موضوعاً رائجاً عليها، راحت تستثمر فيه بنزعة انتهازية، وتبث المزيد والمزيد من الصور والأخبار المتعلقة به، لإرضاء نزعات الجمهور، الذى لا يمل من مطالعة الصور، وقراءة التعليقات المصاحبة لها.
خامساً: تعرف هذه الفنانة أن جمهور وسائط التواصل الاجتماعى كبير، وأن مشاركاته اليومية على تلك الوسائط ضخمة، وأن ثمة رابطاً ينظم تلك المشاركات ويؤطرها، ومن بين قواعده مكافأة كل غريب وشاذ وتافه وإباحى بالمزيد من الاهتمام، ومعاقبة كل جاد ومسئول وموضوعى بالمزيد من التجاهل.
سادساً: تفهم تلك الفنانة أن حياتنا الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية والفنية تمر بمرحلة خواء، وأن ذلك الخواء لا يقبل أن يشغله سوى المزيد من الخواء. وقد عاينت بـ«ذكائها الفطرى» ما حدث فى مهرجان الجونة السينمائى، الذى انتظمت فعالياته فى وقت سابق من هذا العام، ولم يرسخ فى ذاكرة كثيرين من أفراد الجمهور غير المتخصص بشأنه أكثر من صورة ممثل شاب من نجوم الصف الثانى أيضاً، مستعرضاً «مفاتن» زوجته أمام عدسات المصورين.
على عكس ما يتصور كثيرون، فإن المهرجانات السينمائية العالمية تشهد أحداثاً مشابهة، حتى إن مهرجانات كبيرة ومهمة مثل «كان»، و«البندقية»، وحفلات منح جوائز «الأوسكار» تشهد وقائع مماثلة، حينما تظهر بعض النجمات أو عارضات الأزياء بأزياء كاشفة وسيقان عارية، وهو أمر يجذب اهتمام عدسات المصورين، وبعض وسائل الإعلام.
لكن ما يجعل الأمر مختلفاً عندنا أن النسق الأخلاقى والقيمى الذى يحكم مجالنا العام يبقى أكثر محافظة من احتمال مثل هذا الشطط، وأن أوضاعنا السياسية والاجتماعية والتنموية تبقى أقل مطاوعة للاهتمام بمثل هذه التفاهات، وتكريس المساحات الضخمة لها.
أمر آخر يجب أن يكون محل اهتمام، ففى العالم الغربى تبقى المحصلة الفنية، وعناوين المعالجات الصحفية، والأهمية الثقافية لمثل هذه المهرجانات، بعيدة تماماً عن الاستلاب لصورة نجمة مهما كانت، وللمساحات المكشوفة فى أجساد الحاضرات مهما اتسعت.
نحن بحاجة ماسة لأن نسأل أنفسنا: لماذا امتلكت «علياء المهدى» حضوراً على محرك البحث الأشهر قارب المليون نقرة، ليضعها فى قائمة المشاهير والمهمين، مقارنة مع ربع المليون تقريباً لعالم مثل «أحمد زويل»، ونصف المليون تقريباً لصحفى شهير مثل «محمد حسنين هيكل»، وأقل من مائة ألف رابط تقريباً لمخرج من أهم مخرجى السينما المصرية مثل «داوود عبدالسيد»؟
ولنسأل أنفسنا أيضاً: لماذا قارب اسم «رانيا يوسف» تسجيل نحو عشرة ملايين رابط على محرك البحث ذاته، ولماذا تحتل أنباء وصور فستانها العارى، معظم ما يظهر عبر تلك الروابط؟
فنانة شاطرة، وإعلام مأفون، وجمهور غير واعٍ، ومجتمع فاقد الاتجاه، وخواء فى خواء.
شاهد: تظاهرات السترات الصفراء.. ما هي وكيف بدأت؟