تعيش فرنسا أحداثًا مثيرة فى هذه الآونة، فالاحتجاجات تتواصل فى الشوارع، وتتخللها عمليات شغب ونهب وتخريب واسعة النطاق، وثمة عشرات القتلى والجرحى ومئات المعتقلين، ووكالات الأنباء تتناقل صورًا صادمة، يتعذر أن يصدق المرء أنها تنقل أحداثًا تقع فى إحدى أقوى دول العالم المتقدم، ومع ذلك فإن الدولة قوية، والنظام مستقر، والشرعية نافذة، والقانون فعال، ولا يوجد أى شك فى قدرة القيادة والدولة والمجتمع على تجاوز هذه الأزمة. لن تقع فرنسا، ولن تقفز إلى الحكم نخبة متطرفة، ولن تفقد المؤسسات قدرتها على القيام بدورها، ولن تكتب البلاد دستوراً جديداً، ولن يُستباح الأمن الشخصى والمجتمعى، كما توقع بعض مستخدمى «السوشيال ميديا» فى بلادنا الذين سارعوا إلى الابتهاج لأن «ربيعًا» أو «خريفًا» ضرب «عاصمة النور» باريس، وجعل الفرنسيين فى مرمى ما ذقناه، ودفعنا أثمانه الفادحة فى مصر، وسوريا، وليبيا، واليمن.
لماذا؟ لأن فرنسا دولة ترتكز على شرعية دستورية فعالة، وتمتلك نظامًا سياسيًا مرنًا، وتُعلى سيادة القانون، وتمتلك أطرًا سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية رشيدة. قد تقع المشكلات الحادة، وتندلع الأزمات الصعبة، وتنفلت الاحتجاجات من عقالها، وتمارس الشرطة العنف المدروس أو المفرط أحياناً، وتتراجع الحكومة عن قراراتها، وتتفاوض مع المحتجين، أو تقيم حواراً مجتمعياً، أو تطيح وزيراً أو مسؤولاً، أو تتراجع شعبية الرئيس بحدة، ويفقد فرصته فى ولاية جديدة، لكن الدولة قائمة ومستمرة، والمؤسسات قادرة وإرادتها نافذة، والاستقرار عائد. يقول علماء السياسة إن الحكم فى أى دولة يرتكز على ركيزتين أساسيتين: أولاهما الشرعية legitimacy، ومعناها الطبيعة الرضائية لمواقف الجمهور من النخبة الحاكمة، النابعة من «إضفاء الصفة القانونية على كل ما يصدر عن السلطة»، وثانيتهما امتلاك السلطة حق ممارسة القوة الجبرية فى إطار القوانين السائدة.
ويضيف هؤلاء أن أحد مؤشرات قياس كفاءة الحكم يتمثل فى قدرة الدولة على الحصول على السلوك الرضائى للجمهور، بما يشمله هذا من إبداء الامتثال والمطاوعة للقرارات والأحكام، استناداً إلى قدر أكبر من الشرعية فى مقابل قدر أقل من استخدام قوة الجبر.
قد تنجح بعض الأنظمة فى الاستقرار فى مواقعها، والحصول على صيغة الامتثال والمطاوعة من القطاعات الغالبة فى الجمهور، استناداً إلى استخدام القوة الجبرية المفرطة أحياناً، وإشاعة أجواء الخوف، وهنا ينشأ ما نعرف أنه حكم استبدادى وبوليسى.
نرشح لك: كيف تفادى صاحب محل هجوم أصحاب السترات الصفراء في فرنسا؟
وقد تنجح أنظمة أخرى فى الاستقرار، والقدرة على مقاومة الأزمات، وتجاوز التحديات، عبر تكريسها للشرعية الدستورية، وتطوير آليات التدافع والتنافس والتفاوض حول المصالح بوسائل السياسة التى لا تُبقى سوى حيز شديد المحدودية لاستخدام القوة، وبشروط مدروسة، وهنا تظهر الدولة الديمقراطية والعاقلة والحكم الرشيد. لا يمكن أن تتساوى فى ذلك الطرح دول مثل سوريا والعراق وأفغانستان مع دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لأن درجة الوعى مختلفة، والحالة السياسية مختلفة، ودرجة التطور الاقتصادى والاجتماعى شديدة التباين.
لكن ما يجعل للأمر معنى، أن التاريخ لم يسجل سوى نصيحة واحدة فى هذا الصدد للقادة النبهاء، وتلك النصيحة مفادها أن تعزيز الشرعية، وخفض درجة استخدام القوة الجبرية إلى أقصى حد ممكن، هو السبيل لضمان مصالح الدولة وأمنها واستدامتها، واحترام حقوق الناس وكرامتهم.
نقدم لك| تظاهرات السترات الصفراء…ما هي وكيف بدأت؟