قبل شهرين، سألت مسؤولاً روسياً: هل ستوجهون دعوة إلى الرئيس السيسى لحضور الاحتفال بالذكرى السبعين لانتصاركم فى الحرب العالمية الثانية؟.. أجابنى على الفور: الرئيس المصرى مُرحبٌ به دائماً، وظنى أنه فى مقدمة المدعوين!
لم يكن صعباً رصد مؤشراتٍ لرغبة القيادة الروسية فى حضور السيسى تلك المناسبة التاريخية، إذ يبدو الخط البيانى للعلاقات بين القاهرة وموسكو فى تصاعد مستمر، كحال درجة التفاهم العالية بين السيسى وبوتين!.. فقط خشيتُ وقوع طارئ فى مصر يحول دون تلبية الدعوة، وهو ما لم يحدث والحمد لله!
إذن إلى موسكو!
على المستوى المهنى، سعدتُ بتغطية إعلامية فريدة.. فهى المرة الأولى التى يحضر فيها رئيس مصرى مراسمَ العرض العسكرى ليوم النصر، وهو ما لم يحظَ به الرؤساء السابقون، بمن فيهم جمال عبدالناصر صديق خروتشوف وبريجنيف!
أما على الصعيد الشخصى، فقد منحتنى هذه المهمة فرصة جديدة للاقتراب من الشخصية الروسية، ومتابعة تفاعلاتها مع نصرٍ صنعه الأجداد بتكلفة بلغت ٢٦ مليون قتيل!
ينشغل الغرب فى التاسع من مايو بما سيتباهى به القادة الروس من أسلحة حديثة.. يترقبُ ظهور أحدث أجيال الصواريخ، والمقاتلات والدبابات والآليات العسكرية.. هكذا جرت العادة، لكن الأمر مختلف هذه المرة.. إذ احتفل بوتين بالنصر بينما بلاده ترزح تحت وطأة عقوبات اقتصادية ودبلوماسية، بسبب ما يراه الغرب تدخلاً روسياً سافراً فى أوكرانيا!..
لذا كان من الطبيعى انتظار الرسائل التى ضمّٓنها زعيم الكرملين فى كلمته، بالإضافة إلى التمعن فى مستوى حضور الضيوف من زعماء العالم، مَنْ حضر وَمَنْ غاب!.. أنا أيضاً أنشغل بكل ذلك انطلاقاً من متابعتى للشأن الروسى، لكن جزءاً كبيراً من هذا الانشغال ينصبُ على البحث عن إجابة أسئلة مهمة: ما سرُ وحدة الصف الروسى فى عيد النصر؟!.. لماذا يبدو الروس وكأنهم على قلب رجل واحد فى التاسع من مايو؟!.. ما الذى يجعلهم ينحّون خلافاتهم جانباً ويخرجون إلى قبر الجندى المجهول الموجود فى كل مدينة وقرية لوضع الزهور عليه؟!
منذ قرابة ربع قرن انهار الاتحاد السوفيتى، وانفجر بركانُ صراع سياسى وعرقى كاد يُفتت روسيا إلى دويلات صغيرة!.. تعاقب على كرسى الحكم كلٌّ من: بوريس يلتسين وفلاديمير بوتين وديميترى ميدفيديف، ثم عاد إليه بوتين من جديد عام ٢٠١٢، ورغم كل هذه التغييرات لم تنقص قدسيةُ النصر وصانعوه، بمن فيهم ستالين الملقب لدى كثيرين بالديكتاتور السفاح!
فى الوقت الراهن ينتقد معارضو بوتين سياساته الداخلية والخارجية، يتبادل مؤيدوه وخصومه أقسى الاتهامات، ومع ذلك يقف الفريقان فى التاسع من مايو إجلالاً لذكرى ضحايا الحرب، وفخراً بدحر هتلر وجيشه!.. يسعى كثيرٌ من الشباب الروسى لجعل حفلات زفافهم فى هذا اليوم، فيما أصبح تقليداً أساسياً على مدار العام ذهابُ العروسين إلى الشعلة الخالدة لوضع باقة زهور عندها!.. تأسرنى هذه المشاهد، خاصة أن الوفاء الروسى لا يُوجه فقط لضحايا الحرب، بل لعل صورته الأجمل هى الاهتمامُ بمنْ بقى على قيد الحياة من قدامى المحاربين، الذين يتناقص عددهم يوماً بعد آخر.. فى الساحة الحمراء التقيت أحدهم.. كان يقف متكئاً على عصاه، تملأ الميداليات والنياشين جاكيت بدلته المتواضعة.. كان يتحدث إلى فتاة فائقة الجمال.. خمنت أنها حفيدةُ أحد أبنائه، إذ علمت أن الرجل يبلغ اثنين وتسعين عاماً!.. فاجأتنى الفتاة بأنها لا تمت إليه بصلة قرابة.. بل هى واحدة من المتطوعات اللاتى يخرجن فى هذا اليوم بحثاً عمن جاء وحيداً من قدامى المحاربين ليساعدنه أثناء تجواله فى الساحة الحمراء، ويصطحبنه بعدها إلى أقرب محطة أتوبيس أو مترو فى طريق العودة إلى البيت!
فى كل مرة أشهد فيها عيد النصر فى موسكو أشعر بالأسف على شيئين، الأول: أننا لا نضع نصر أكتوبر فى مكانته اللائقة، بل نجعل الاحتفاء به مجرد فعاليات باهتة لا تليق بجلال المناسبة!.. والثانى: أن تعاملنا مع قدامى المحاربين يحتاج منا- حكومةً وشعباً- إلى وقفة جادة، وفى الحالتين لا بأس من الاستعانة بدروس الوفاء على الطريقة الروسية!
نقلًا عن “المصري اليوم”