نقلا عن الشروق
ما يجعل من فيلم «على بوابة الأبدية»، الذى أخرجه واشترك فى كتابته «جوليان شنابل»، عملا عظيما بحق، أنه انطلق من معاناة فان جوخ مع مرضه، ومن تفاصيل أيامه الأخيرة التى نعرفها، إلى تحليل علاقة الفنان بموضوعه، ووعيه بإنجازه، وفلسفته فى اقتناص الجمال.
الصورة التى قدم الفيلم بها فان جوخ، لا تستمد تفردها فحسب من أداء وليام دافو الفذ، الذى فاز عنه بجائزة أفضل ممثل فى مهرجان برلين 2018، ولكنها تبدو لامعة حقا ببراعة التناول المختلف لشخصية جوخ، إنه يعى موهبته ودوره، وكأنه فنان صار فيلسوفًا للجمال، تصيبه نوبات من المرض العقلى الخطير، ولكنه يعود من جديد ليحاور ويتأمل، إنه أذكى وأعقل وأجمل فان جوخ ظهر على الشاشة. بل إن الفيلم يبدو كدراسة فى فلسفة الفن والجمال، استلهامًا من تجربة فنان يعانى فى سبيل أن يفوز بمنظر، يجعله يقف حرفيًّا على بوابة الأبدية.
نرشح لك: طارق الشناوي يكتب: بلبوص!!
بناء السيناريو لا يسير يومًا بيوم مع تفاصيل معاناة نعرفها، وشاهدناها كثيرًا من السطح فى أعمال سابقة، ولكنه يستعير طريقة جوخ فى اقتناص اللحظات اللامعة، التى تجسد حقيقة مهمة وأساسية، هى أنه وراء اللون والمنظر، توجد فكرة وفلسفة، توجد حالة أقرب إلى التنوير، والإشراق الصوفى، وحوارات جوخ سواء مع جوجان، أو طبيب المصحة، تعادلها حواراته المباشرة مع الطبيعة، مع الشمس التى يرسم أشعتها، مع البشر الذين يراهم بطريقة مختلفة..
هذه الحوارات ــ منطوقة أو مصوّرة بعدسة شديدة الحساسية ــ هى جوهر الفيلم، ولذلك شعرنا كأننا نرى فان جوخ لأول مرة فى السينما؛ لأننا نراه فعلًا لأول مرة من الداخل، ولأن صنّاع هذه التحفة فهموا الرجل وفنه وأسلوبه، وعبّروا عنه بطريقة تستلهم هذا الأسلوب، وتلك الفلسفة، صنع جوخ لوحاته الثابتة، وها هم يصنعون لوحتهم المتحركة عن فان جوخ.
أمسك الفيلم بسر العبقرية، وضع معاناة الفنان فى سبيل خلق أسلوبه فى المقدمة، معاناة مرضه تبدو لا شىء مقابل معاناة اقتناص اللحظة، كل الهموم والإحباطات ولحظات الفشل لا تساوى شيئا أمام «اللحظة المقدسة»، عندما ينتشى فان جوخ بالطبيعة، يندمج معها، يشم تربتها، يطرق باب الأبدية، فيدرك عبقريته، بل يبتهج لأن أفضل ما يمتلكه الفنان هو لحظة جنون.
يعبر فان جوخ وجوجان عن فلسفتين مختلفتين فى الفيلم: فان جوخ يقول إنه يرى المشهد الذى يريده فى قلب الطبيعة، فيحرره منها، ويضعه فى لوحته، أما جوجان فيرى أن المشهد موجود داخل الفنان نفسه، وهو يعكسه على الخارج، كلا الرجلين يتفقان فى الحقيقة على أن العبقرية فى رؤية الفنان، وليست فى الموضوع أو المادة، فى العين البصيرة، لا فى العين الناقلة، فى الداخل والذاتى، وليست فى الخارج الموضوعى.
عظمة الفيلم أنه يرى الفن كشفًا وتجربة داخلية، ويرى الألوان والأشكال تعبيرا خارجيا عن هذا الكشف، المعنى والسحر وراء اللون والشكل، لن تصل إليه إلا بنظرة أعمق، أما الفنان فهو أثمن ما على الأرض.
فان جوخ يقول ــ فى أحد أجمل مشاهد الفيلم ــ إنه سابق لزمنه، وإن تجاهله ومعاناته مثل تجاهل ومعاناة المسيح، الآلام عند جوخ تبدو ثمنا بخسا للخلود، للقيمة، للنقش على جبين الزمن، لملامسة الأبدية، ولتحرير الجمال المراوغ، ووضعه فى لوحة ملونة، الفنان فقط هو الذى يرى، الآخرون ينظرون فحسب.
استوعب المخرج شنابل هذه الرؤية الصوفية لرحلة فان جوخ، استخدم الكاميرا الذاتية التى تعبر عنه وعنها، فإذا كانت اللقطة موضوعية، فإنها تحاكى أيضًا عين فان جوخ التى ترى الأشياء بصورة مختلفة، يختل المنظر التقليدى، وتختفى التكوينات الكلاسيكية، نرى المشهد كما رآه الفنان، وليس كما يبدو، حتى فى ظل المرض، تعبّر المرشحات عن ضباب لا يمكن أن يحجب المنظر، يشوهه ولكنه لا يخفيه أبدا، على شريط الصوت موسيقى مذهلة، بيانو وكمان، وشمس فان جوخ تكاد تخرج من الشاشة لتضىء قاعة العرض.
يختفى تمامًا فان جوخ الضعيف الذى لا يثق فى نفسه، ليظهر عملاق آخر، كبير بالعبقرية، ثرى بالوعى، حكيم وفيلسوف، يمتلك قلبًا وعينًا لا يملكهما أحد.
محمود عبد الشكور يكتب: “حروب الرحماء”.. المثالية في مواجهة الواقع
شاهد: نهايات مأساوية.. #كاميليا ماتت ليحيا #أنيس_منصور