“وَكَمْ ذَا بِمِصْرَ مِنَ المُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكَا”
البيت الشهير للمتنبي الذي هجا فيه كافور الإخشيدي، وهذا البيت يضعك أمام الحقيقة، يصيبك بوجع غير معلوم المصدر، لكنّه في كل الأحوال مؤلم، يصدمك على طريقة موت البطل في الربع ساعة الأولى لتسأل نفسك ماذا بعد؟
وبعد الوجع والألم يأتي الضحك الخالد بنفس عبقرية المتنبي، وأعظم من يجسد الضحك الذي يتماهى مع البكاء أو يوازيه هو “يوسف عيد”، أحد أهم الكوميديانات في تاريخ مصر، وصاحب واحدة من أشهر الضحكات في السينما المصرية بعد ضحكة حسن فايق.
يوسف عيد يجسد هذه العظمة، يقف على رأس هذا البيت ليجسده دون زيادة أو نقصان، تشعر أنه يضحكك قبل أن تسقط دموعه، أو أنه خارج للتو من وصلة بكاء، أو حتى يضحك من منطقة الضحك القلق المتزعزع والتي تنتمي مصريًا إلى منطقة “اللهم اجعله خير”.
ضحك يوسف عيد ليس ضحكًا عاديًا، بل ضحكًا مُشبعًا بشيء لا يظهر على السطح، شيء غارق وضارب في أعماقه، ضحك يساوي الوجه الآخر للحزن، كوميديا شديدة الإغراق تشبه ابتسامة الموناليزا في لوحة ليوناردو دافينشي الأسطورية، ضحك يحار في تفسير منبعه.
نرشح لك: مين اللي ميحبش نورا؟
كنا في المرحلة الإبتدائية نلهو بنوع من “المساطر” يحمل عدة أوجه، يظهر كل وجه مع تحريك المسطرة يمينًا أو يسارًا تحت بقعة الضوء … هكذا كانت كوميديا يوسف عيد، لا تستطيع أن تجردها بسهولة، أو تضعها على وجه واحد بهدوء، بل هي مشتبكة ومفعمة بالحزن الجميل.
سحر هذا الرجل يكمن في أنه يضحك ضحكته الشهيرة فيُسقطك أرضًا من السعادة، لكن حين تلتقط ملامحه عقب الضحكة مباشرةً ستكتشف حزنًا عميقًا يلوح على وجهه …”فكرة المسطرة”
أما نجاحه هو الآخر لديه عدة أوجه، ربما لملامحه الشعبية المصرية الأصيلة، وربما لموهبته الفطرية القوية، ربما لبساطته فهو في الدنيا والفن سواء “غريب أو عابر سبيل”
ولد يوسف عيد بالجمالية 15 نوفمبر 1948، وحصل على الثانوية الأزهرية، وكانت أولى المسرحيات التي اشترك بها تحمل اسم “نحن لا نحب الكوسة” عام 1975 !
مفارقة أم علامة مثل تلك العلامات التي تظهر لباولو كويلو الكاتب البرازيلي الشهير، لكن في كل الأحوال عاش وترعرع وقابل وجه كريم بعيدًا كل البعد عن الكوسة.
يظهر عيد عبر مقاطع حوارية لمدة لا تزيد عن عشرين دقيقة مقسمة إلى أربعة أقسام على الإنترنت، يتحدث فيها عن علاقته بالمخرجين الكبار”هنري بركات، سعيد مرزوق، يوسف شاهين، حسين كمال” يحكي بانبهار، ببساطة، بفخر، يضحك، ويفكر، يتذكّر يوسف شاهين وهو يحاوره قبل مشهده الوحيد في فيلم “اليوم السادس” والذي يجمعه بداليدا، يقول على لسانه: زقها بنت… متخافش، لا يذكر اللفظ، يبتسم بخجل ويستعيض عنه بـ”كذا” بدلًا من الكلمة نفسها.
يذكر حسين كمال الذي يحمله ثقل الكوميديا لكسر الأجواء والمشاهد الحزينة في فيلم “كل هذا الحب” ويوصيه بفك الكآبة ولكن دون كلام خارج فيقول له “عيب يا أستاذ” فيؤمن على كلامه لأنه يعرفه جيدًا.. رجلا ممتلاءًا بأفكار وأبجديات الحارة المصرية الأصيلة.
يحكي يوم أن قابله يوسف شاهين بالأحضان مناديًا عليه “جو” ويبتسم.. ذكرياته تقول أنها عاش الحياة والفن على الهامش، وببساطة، طفل بعينين زائغتين من الحماس والحب والتطلع، عاشها بفخر، يثق في إمكانياته، ويعرف أن بإمكانه إضحاك طوب الأرض.
الحقيقة أنه أشترك في عدد ضخم من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، لكنها جاءت من جدار البساطة التي تليق بهاوٍ أو متفرج، وبقدرة تليق بمحترف، تشعر أنه يذهب للتصوير ويعود ليجلس بيننا على المقاهي القديمة لنتقاسم الضحكة والبهجة على الدوام، نحن لا نتوقف معه أمام تاريخ يُحكى، لكنّه بذاته تاريخًا يتحرك مثل نقطة الماء التي تروي العطش، بهدوء وتدفق يصنع صورة غزيرة، نقطة تتحرك من مشهد وحيد إلى مشهد آخر وحيد…. تصنع وحدة واحدة من الونس والدفء، يوسف عيد الذي يقدمه “الكوميك” على مواقع التواصل كبطل بتعبيرات وجهه العبقرية، وتقدمه المشاهد كرجل احترف السكن تحت جلد المشاهد.
قدم الدكتور عبد ربه في إتش دبور
وبوب مارلي في الحرب العالمية الثالثة
وكيل المدرسة الذي يميتك من الضحك بصمته قبل ضحكه وكلامه في مبروك أبو العلمين
عم هيصة في الرجل العنّاب
حمدي كاتا في الكبير أوي
ظهور بعدد مرات كبير، لكنه بظهور عزيز، وبنفس القوة والتأثير في كل مرة وبلا تكرار، بلا أي “ثقل” على المشاهد، حضورًا أفقيًا وليس رأسيًا، يشبه تحرك صانعي الألعاب الكبار في مباريات كرة القدم الذين يجوبون أنحاء الملعب بحثًا عن ثغرة يمررون من خلالها لعبة جميلة، برع يوسف عيد في تمرير كل الضحكات والإفيهات الجميلة، مثل إنيستا صانع ألعاب برشلونة الذي كان يقدم التمريرات على طبق من ذهب لميسي الذي يحتفي به الجميع، ويبقى هو بعيدًا عن منصات التتويج.
شاهد: في يوم الشاي العالمـــي.. كيف أصبح الشاي جزءًا من حياة المصريين!