إذا كانت الواقعية تعنى بتصوير سلوكيات وعلاقات البشر كما هي عليه في العالم المادي بحيث تكون كانعكاس للحياة الحقيقية والسريالية تعنى بالتعبير عن العقل الباطن واللاوعي، بحيث تستكشف الترابطات مع الخيال وليس مع الواقع المادي بشكل أقرب للأحلام، فإن الواقعية السحرية هي مزيج ما بين الاثنين، فصحيح إنها تستخدم عنصر الخيال في عرض محتواها لكنها لا تعنى بذلك التأمل واستكشاف العقل الباطن بل بالتعبير عن العالم المادي من خلال الإسقاط على المجتمع والطبيعة فتعرض الخيال كحقيقة مسلم بها.
عندما عرض الفيلم الإيطالي “سعيد مثل لازارو” قوبل بآراء تنقد بنائه الدرامي الذي قسم الفيلم لجزئيين مختلفين تماماً:
ففي الساعة الأولى نتعرف على قرية “انفيولاتا”، مزرعة التبغ التي تمتلكها الماركيزة “دي لونا” سيدة قامت باستعباد أهل القرية وجعلتهم يعملون لديها طوال عمرهم وذلك عن طريق عزلهم عن العالم الخارجي وإخفاء كل معالم التمدن حتى لا يدركوا حقوقهم، يتابع الفيلم واحد من العمال في القرية، “لازارو” الفتى الطيب الذى تتسم ملامحه بالبراءة وكذلك تصرفاته فهو يقبل أن ينفذ كل الأوامر والتعليمات التي يتلقاها مهما بدت غريبة لكنه ليس غبى بل نقى وهو الوحيد الذى ينشئ علاقة صداقة مع “تنكرادى” ابن الماركيزة وهى علاقة وإن كانت علاقة إخوة من طرق لازارو فهي لا تخلو من الاستغلال من طرف ابن الماركيزة.
حتى هذه اللحظة كل شيء طبيعي، حكاية كلاسيكية يتم التعبير عنها بواقعية لكن كل ذلك يتغير في الساعة الثانية، عندما يتعرض لازارو لحادث، يغفو على أثره وعندما يستيقظ يكتشف أن القرية صارت مهجورة وبعد أن يقابل أفراد من قريته يكتشف أنه قد مضى سنوات على اختفائه فتبدأ رحلته في التأقلم مع الوضع الجديد وفي البحث عن “تانكرادى”.
الآراء التي هاجمت بناء الفيلم استندت في هجومها على أسس البناء التقليدي للسيناريو، حيث أن صانعة الفيلم أليس رورفاكر عرضت ساعة تأسيسية اتسمت بواقعية التناول وبعد ذلك اعتمدت على حدث خارق للطبيعة في تطور الأحداث وهو موت الشخصية ثم بعثها من جديد فهي بذلك خانت الاتفاق الضمني الذي عقدته بينها وبين المشاهد في بداية الفيلم. كما أن شخصية لازارو لا تتطور فهو شخص برئ ونقى منذ بداية الفيلم حتى آخره، لا يحدث في شخصيته أي تحولات أو تطورات.
“البشر بهائم، حيوانات. اجعلهم أحراراً وسيدركون أنهم عبيد. الآن هم يعانون لكنهم لا يدركون ذلك. انظر إلى ذلك الشاب المسكين، أنا أستغلهم وهم يستغلونه، إنها حلقة مفرغة لا تنتهي”
“لكن ربما هو لا يستغل أحد”
“هذا مستحيل”
هذا جزء من حوار دار بين الماركيزة وابنها في الفيلم، هذه هي رؤية مخرجة الفيلم للبشر، الجميع يستغل الجميع، هذه رؤيتها وهذا هو العالم الذي خلقته، هي إذا لم تخن العهد بينها وبين المشاهد فموت لازارو ثم بعثه ليس أول حدث خارق للطبيعة في الفيلم بل وجود لازارو نفسه هو حدث خارق للطبيعة ففي هذا العالم يستحيل وجود مثل هذا الشخص النقي.
يستعير الفيلم الكثير من التراث الديني والأساطير الشعبية: فبداية اسم القرية “أنفيولاتا” معناه البكر أو الذي لم يمس من قبل دلالة على عزلة تلك القرية عن بقية العالم، ابن الماريكزة “تانكرادى” اسمه مشتق من “تنكراد” أحد قادة الحملة الصليبية الأولى، “لازارو” نفسه اسمه مشتق من القديس “لعزار” أو “لازاروس” الذي لم تكتفى رورفاكر باستعارة اسمه بل كان مصدر إلهام لشخصية لازارو وأحداث الفيلم نفسها فالقديس لازاروس ارتبط اسمه بآخر المعجزات التي قام بها المسيح وهي إعادة بعث “لازاروس” بعد موته بأربعة أيام حتى أن الاسم نفسه صار يستخدم في المصطلحات العلمية والثقافة الشعبية ليشير إلى أي شيء يعود للحياة مجددا.
هناك أيضاً ذكر لاسم “لازاروس” في التعاليم المسيحية لكنه ليس لنفس الشخص بل هو جزء من أمثال يسوع وهي عبارة عن مجموعة قصص قصيرة عمومًا ومختلفة الطول ضربها يسوع تعتمد على البساطة والكثير من التشبيهات والصور لتوضيح غاية معينة بحيث تساعد الحبكة القصصية أو خلاصة نهاية المثل في فهم الحقائق الروحية. والمثل المقصود اسمه “الرجل الغنى ولازاروس” ويحكى عن علاقة رجل غنى لا يذكر اسمه وبين شحاذ فقير يدعى لازاروس، هذه العلاقة استمرت في حياتهم وبعد موتهم، فلازاروس كان شحاذًا فقيرًا يعيش على باب الغني، لا يجد ما يأكله وعندما مات كلاهما. كان الرجل الغني في النار فنظر إلى أعلى فوجد الأب إبراهيم وبجواره لازاروس فطلب من إبراهيم أن يرسل لازاروس ليطرى لسانه بالماء لأنه في عذاب في هذه النار لكن إبراهيم يخبره أنه حصل على الخيرات في حياته بينما لازاروس حصل على البلايا لكنه الآن يعزى والغني يعذب.
نرشح لك: حسين عثمان يكتب: سيرة حسن كامي
يمكن بسهولة الربط بين المثل وأحداث الفيلم فالوعظ من المثل يكمن في أنانية الغني وإغفاله مساعدة الشحاذ وإن كانت أحداث الفيلم تبرز الأغنياء المتمثلين في الماركيزة بشكل أقصى، فالشر لا يكمن في غنائها لكن في استغلالها لأهل القرية. لكن رورفاكر لا تقدم فقط نقد لفروق الطبقات الاجتماعية لكنها تنتقد هجرة القرى للمدينة وتضحية سكان القرى بما لديهم ليحصلوا على الأقل منه. شخصية لازارو تمثل البراءة الشديدة إلى درجة عدم القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذب فعندما تقول زوجة “تنكرادى” أن السبب فيما حصل لهم هو البنك، يذهب إلى البنك ليرجع أموالهم إليهم وهناك ينقض عليه الناس في مشهد مؤلم وقاسى. فرورفاكر تقول “إن الفيلم لا يطلب مننا أن نكون مثل لازارو بل أن نكون قادرين على ملاحظة منهم مثل لازارو، الفيلم ليس عن رؤية لازارو للعالم بل عن رؤية العالم له”.
معالجة رورفاكر المميزة في السيناريو ليست الشيء الوحيد الذي جعل من الفيلم تجربة مميزة فكمخرجة استطاعت أن تصنع عالم سينمائي خاص للفيلم من خلال اختيارها صورة نسبة أبعادها أقرب لشكل المربع كذلك التصوير بالخام واعتمادها على ألوان باهتة.
في النهاية، ومثلها مثل أمثال يسوع، ومن خلال الدمج بين القصتين: قصة الغنى والفقير وقصة القديس اعتمدت رورفاكر على البساطة في الحكي وعلى عنصر الخير المستمد من الأساطير والتراث القديم للتعبير عن وجهة نظرها نحو العالم ونجحت في ذلك بدون تكلف أو وعظ وصنعت نموذجا معاصراً للواقعية السحرية في السينما.
شاهد: أغلى فساتين زفاف في العالم