الإعلام المصرى خسر سمعته بين مواطنيه على نحو لا يمكن إنكاره..
لا أحد فى المحيط العربى يتحدث عنه بتقدير ولا أحد فى العالم ينظر إليه باحترام..
لم يحدث فى التاريخ المعاصر كله أن تراجعت الثقة العامة فيه إلى هذا الحد..
نحن نتحدث عن مدارس كبرى تنهار ومنارات إشعاع تتصدع وقوة ناعمة تنعى أطلالها..
هذه رسالة سلبية إلى المستقبل فانكشاف الإعلام أسلاك عارية تصعق بدلا من أن تنير..
التشهير بأية قيمة والحط من شأن أى رأى أول تجليات الانكشاف..
وقد سحب من الإعلام مهنيته وموضوعيته فضلا عن احترامه..
كان الصمت على انتهاك حرمة الحياة الخاصة وحملات اغتيال الشخصية من مقدمات الانهيار الكبير..
مع تضييق المجال العام علا الصراخ من فوق منابر الفضائيات بوهم أنه يمكن أن يملأ الفراغ..
بحسب عبارة للأستاذ «محمد حسنين هيكل» فـ«أنت لا تقنع إلا بما هو مقنع»..
إنكار الأزمات من أسباب ارتفاع منسوب القلق العام وتراجع شعبية النظام الجديد..
فلا أحد يعرف ما الذى يجرى بالضبط.. أين وصلنا ولا إلى أين نتجه؟..
القضية ليست صراخا عبر وسائل الإعلام بقدر ما أن تكون هناك إجابات على الأسئلة الرئيسية التى تضغط على مواطنيه وأن ينفسح المجال العام لتبادل الآراء وتجديد الأفكار وبناء التوافقات العامة..
هناك فارق بين الإقناع والإكراه..
ما يشبه الفراغ الإعلامى عمق من أزمة الخطاب العام..
المعضلة الأساسية أن النظام الجديد لم يعلن عن نفسه حتى الآن.. فهو واقف على أعتاب المستقبل دون أن يغادر أطلال الماضى..
فى فجوة الرؤية تقدم الماضى لاحتلال الفضاء الإعلامى وتبدى نفوذ المال السياسى فى التشهير بثورة «يناير» ودمغها بالمؤامرة..
دخل بعض الأمن على خط التحريض بتصور أن الانتقام من «يناير» يرد اعتباره ويثبت الدولة..
كان ذلك تصورا مقصورا وضع البلد كله أمام انكشاف حقيقى..
فالتشهير بـ«يناير» مشروع اضطراب يضفى على العنف شرعيته ويسحب من «يونيو» أحقيتها فى الحكم..
التضحيات بذلت والدماء سالت حتى يمكن التتطلع إلى مستقبل أفضل لا أن يعود الماضى من نوافذ الإعلام بعد طرده من أبواب الميادين..
هذه مسألة شرعية التساهل فيها عدوان خشن على الدستور وأى رهان على التحول إلى مجتمع ديمقراطى حر ودولة مدنية حديثة..
وكانت الضربة القاصمة بعد تضييق المجال العام شبه استبعاد السياسة من فوق خرائط الإعلام..
فى كل أنحاء العالم فإن المنوعات والتسلية من ضمن أية وجبة إعلامية متكاملة..
هذا طبيعى تماما.. فالناس تحتاج إلى الترفيه بقدر حاجتها إلى التوعية..
غير أن ما يحدث الآن على كل الفضائيات الخاصة تقريبا أقرب إلى الوجبات المسممة..
الرئيس «عبدالفتاح السيسى» استنكر أن ينسب إليه أنه وراء هذا النوع من البرامج التى تخوض فى الحياة الخاصة للفنانين وتنتهك أية مواثيق شرف..
بتكوينه الشخصى فهو صادق تماما فيما يستنكر لكنه لا يمكن إعفاء الدولة التى يترأسها من المسئولية..
لم يكن انكشاف الإعلام مصادفة أو مفاجأة بغير أسباب..
أزمته تلخص أزمات أخرى متداخلة من حسابات المال السياسى وتدخل الأمن فيما لا يصح التدخل فيه إلى تضييق المجال العام وحريات التعبير..
إذا كان هناك من يعتقد أن التخلص من «صداع الإعلام» والاستغراق فى الإلهاء يثبت الحاضر فهو واهم.. واهم بصورة مطلقة..
الاستهتار بالإعلام كالمبالغة فى أدواره..
الاستهتار يغرى بتجاهل رسائل المجتمع التى يعكسها والمبالغة تغوى بالانقضاض عليه..
مزيج من الاستهتار والمبالغة يحدث الآن..
من المثير أن نظام الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» استهتر حيث بالغ فى حكم جماعة الإخوان المسلمين..
كلاهما دفع الثمن مستحقا..
هناك مبالغة مفرطة فى الدور الذى لعبه الإعلام مقروءا ومرئيا بثورتى «يناير» و«يونيو»..
فى الأولى، رفع سقف الحرية بظروف صعبة.. وقد كانت بعض الصحافة وليست كلها ولا أغلبيتها قاطرة الغضب.. لكنها لم تقد الثورة..
لم يسقط نظام «حسنى مبارك» بشجاعة الصحفيين ولا روح النقد السياسى والاجتماعى على شاشات الفضائيات على أهمية هذه الأدوار ولا بدعوات الغضب على شبكات التواصل الاجتماعى رغم إلهامها..
ما أسقط النظام الأسبق اتساع مظالمه الاجتماعية إلى حد لا يطاق واليأس الكامل من أى إصلاح داخله..
النظام سقط من داخله قبل أن تزيحه قوة الغضب العام لملايين المصريين..
هناك فارق بين أن تكون فى الجانب الصحيح من التاريخ أو أن تتصور أنك التاريخ نفسه..
وفى الثانية.. قاتلت بعض منابر الإعلام وليست كلها ضد الجماعة ومشروع تمكينها.. فقد سيطرت على كل محطات التليفزيون الرسمى وكل الصحف القومية وانتشرت كوادرها فى برامج الفضائيات الخاصة.. لم يكن يخلو برنامج واحد من ممثل للجماعة يشرح مواقفها ويتصدى لمنتقديها غير أنهم أخفقوا فى مهمتهم لعجز فى القدرة على الإقناع وغلبة لغة الاستعلاء والوعيد..
شىء من هذا يحدث الآن..
هذا خطر حقيقى.. فأى استعلاء بالقوة ووعيد بالسلطة خاسر مقدما..
بقدر ما تتواضع أمام شعبك فإنه يمنحك احتراما باحترام وثقة بثقة..
نظام «مبارك» وحكم «الجماعة» عملا على تطويع الإعلام كل بطريقته لكن الجماعة بدت أقل مهارة فى إدارة الملف وأكثر توغلا فى تهديد من أطلق عليهم مرشدها العام «سحرة فرعون»..
أسوأ استنتاج ممكن أن وقف «صداع الإعلام» يلغى كل قلق ويمنع أى تذمر..
إذا كان هناك من يتآمر على الحكم الحالى فليتبن هذه النظرية..
إلى أين من هنا؟
هل هناك أمل؟
الأمر يحتاج إلى حوار جدى والتزام رئاسى بإنفاذ النصوص الدستورية فى بناء نظام إعلامى جديد..
وهذه مسئولية مشتركة مع المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحفيين ونقابة الإعلاميين تحت التأسيس وكل العاملين والمعنيين بملف الحريات العامة فى مصر..
إذا اخترقنا الحواجز فإنه يمكن التطلع إلى إعلام جديد يليق بمصر وتاريخها يؤكد دور تليفزيونها بدلا من السعى للتخلص منه وبيع أراضيه وتصحيح بنية الإعلام الخاص الذى يكاد أن ينتحر بزعم أن الإفراط فى التسلية يجلب الإعلانات بينما هو يخرجه من كل تأثير وحساب..
ما تحتاجه مصر أن تكون هناك قواعد ديمقراطية ومنضبطة من تلك التى تعرفها الدول المتقدمة..
أن تستدعى الحوار المفتوح لا النفى المعلن والبحث عن الحقيقة لا التدليس عليها.. الالتحاق بعصرها لا العودة إلى الماضى..
الإعلام أهم من أن يترك للإعلاميين وأخطر من أن يتحكم فيه المال السياسى..
مصر لا تحتمل ولا تستحق إعلاما يستدعى شفقة على من ولد عملاقا فى مطلع الستينيات ومن ألهم العالم العربى كله برواده وأساتذته وتقاليده ومدارسه.
نقلًا عن “جريدة الشروق”