مجلس الشباب يستهدف “خلق حالة حوار”.. ومكتب الشباب يعمل على زيادة إدماجهم لأن ثروة البلد هي “العقول”.. ومنظمة لمنع الجريمة والتهميش بـ”الألعاب”..
في الحلقات السابقة من التحقيق تعرفنا على نظام التعليم في الدنمارك، ونبذة عن التعليم غير الرسمي بأشكاله، وتطوره التاريخي، ثم على الروابط التي تجمع المدارس غير الرسمية في الدنمارك، ودورها في المنظومة، وكيف توفر التمويل، ثم أجرينا زيارات ميدانية للمدارس غير الرسمية، وتعرفنا على نمط حياة الطلاب، ودراستهم، وتكلفة الدراسة، كما زرنا وزارة التعليم، واطلعنا على تجربة التعليم المهني، ودور اتحاد الصناعات في تطوير مهارات العمال أثناء العمل.
وفي الحلقة الخامسة والأخيرة نختتم الزيارة بالمؤسسات العاملة في مجال الشباب والرياضة، وكذلك نزور مدرسة فريدة من نوعها تعمل في مجال تأهيل المهاجرات واللاجئات، وأخيرا نتعرف على طلب السفير المصري من وفد الزيارة.
نرشح لك: محمد وليد بركات يكتب: التجربة الدنماركية في التعليم.. الحلقة (1)
تتكامل مع المؤسسات والروابط والمدارس العاملة في مجال التعليم غير الرسمي، تلك المؤسسات العاملة في مجال الشباب، ومن أهمها “مجلس الشباب الدنماركي”Danish Youth Council (DUF) ، وفيه قابلنا “ليا ليبكر” Lea Lybecker، مستشار العلاقات الدولية، وزميلها “سايمون” Symon، وزميلتها “جورو” Guro.
“ليا” و”جورو” و”سايمون” أثناء الشرح للوفد المصري.
وأوضح ثلاثتهم أن المجلس أنشئ عام 1940؛ بهدف مواجهة النازية والفاشية، على يد الفيلسوف “هال كوك” الذي قال إن الديمقراطية ليست شيئا فطريا، وإنما هي طريقة للحياة، يجب أن تدرس ويتم تعلمها، وهي أسلوب تفكير ينتقل من جيل إلى جيل، وبالتالي فإن توعية الناس ودور التعليم هما حجز الأساس في الديمقراطية.
والمجلس عبارة عن مؤسسة تمثل مظلة عامة للمؤسسات المعنية بالشباب والأطفال في الدنمارك، مثل الكشافة، وشباب الأحزاب، وشباب الكنائس، وعدد أعضائها 75 مؤسسة، تضم 600ألف عضو، ويهدف المجلس إلى تحقيق التواصل بين المنظمات الشبابية والحكومة من جانب، وبين الشباب وبعضهم من جانب آخر، وخلق حالة حوار بينهم رغم تنوع خلفياتهم السياسية والدينية.
المؤسسات الأعضاء في “مجلس الشباب الدنماركي”
وأشار “سايمون” إلى أن المجلس يحصل على التمويل عبر الـ”يانصيب”، وبدوره يمول المنظمات التابعة له.
ويتكامل مع عمل “مجلس الشباب”، الذي يركز على الشباب المنخرطين بالفعل في العمل العام، مؤسسة أخرى هي مكتب الشباب The Youth Bureau، تهتم بالشباب العازفين عن العمل المجتمعي، وفيها التقينا “جولي سكينكلوث” Julie Schneekloth، مديرة المشروع، و”أولاف هيسيلداهل” Olav Hesseldahl ، مدير المشاركة engagement، و”كارين بيرهيجاورد”Karen Birhegaord ، عضوة بالمكتب.
نرشح لك: محمد وليد بركات يكتب: التجربة الدنماركية في التعليم.. الحلقة ( 2 )
وأشاروا إلى أن المكتب منظمة مجتمع مدني، نشأت منذ أربعة أو خمسة سنوات، تهتم بالشباب من سن 15 إلى 30 عاما، للرغبة في زيادة إدماجهم، نظرا لما ظهر مؤخرا من عزوف للشباب عن العمل العام في المؤسسات التي اعتادت أن يكون بها مكون شبابي كالأحزاب والكشافة، والرؤية التي توجه ذلك هي: “إننا ليس لدينا بترول ولا معادن وثروتنا هي “العقول”.
كارين أثناء عرضها للوفد المصري..
وأضاف مسئولو المكتب أن عملية الدمج تتم عبر مشروعين رئيسيين، الأول مشروع “تعليم الديمقراطية”، وذلك عبر احتفال سنوي يستمر ليومين، ويشارك فيه الآلاف من الشباب الدنماركين مجانا، الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و 18 عاما، بالتعاون مع المدارس، ويتم تمثيل أحزاب الدنمارك التسعة، وتجرى مناظرات بين الشباب وكأنهم في البرلمان، والهدف منه تحويل الجانب النظري الذي تتم دراسته عن الديمقراطية في المدارس إلى جانب عملي شيق. أما النشاط الثاني فهو نشاط الطهو، ويغلب عليه الطابع الترفيهي، ويستفيد بهذه الأنشطة حوالي 23500 شاب.
وأوضح المسئولون أن تمويل هذه الأنشطة يتم عبر المؤسسات المجتمعية والبنوك الدنماركية، ويُسمح للشباب من خارج الدنمارك بالمشاركة فيها.
نطاق عمل “مكتب الشباب” في أنحاء الدنمارك
وفي واحدة من أطرف الزيارات، قابلنا “كريستينا أندرسُن”، مسئولة التواصل الدولي في مؤسسة “الألعاب”Game Organization ، والتي أشارت إلى أن المؤسسة عبارة عن مجموعة من الملاعب، تهدف إلى توفير مكان للشباب والأطفال لممارسة الرياضة مجانا، وتوفر رياضات كرة القدم، وكرة السلة، و”الباركور”، وهي رياضة التدرب على القفز وتخطي الحواجز كالأسوار والأرصفة وتسلق المباني.
وأشارت “كريستينا” إلى أن هذه الملاعب بنتها مؤسسات مجتمعية، وتشرف الإدارة الحالية عليها فقط، وتتنبى قيم التحديث، والشمول، والاستدامة، والاحترافية.
“كريستينا” أثناء استعراض ملاعب المؤسسة
وأضافت مسئولة التواصل الدولي أن للمؤسسة أنشطة في الأردن ولبنان والصومال، وكان لها تواجد في مصر بين عامي 2007 و 2010، ولكنه انتهى بسبب صعوبات حكومية، وانسحاب الشريك المحلي، وتستهدف المؤسسة الوصول إلى مائة ألف طفل حتى عام 2020.
وأوضحت “كريستينا” أنه قد تم دعم 526 مشروع لـ”رياضات الشارع” بمنح صغيرة بلغت 14 مليون كرونا دنماركية، استفاد منها أكثر من مائتي ألف شاب وطفل، من خلال أكثر من 90 مؤسسة ومبادرة لـ”رياضات الشارع”.
نرشح لك: محمد وليد بركات يكتب: التجربة الدنماركية في التعليم.. الحلقة ( 3 )
وأشارت “سارة”، المدربة بالمدرسة، إلى أن الفكرة المتميزة في المدرسة هي أنها لا تدرب على الألعاب بشكلها التقليدي، وإنما تعود المتدربين على ممارستها في الشارع؛ لتصبح ثقافة مجتمعية، مشيرة إلى كلمة “أسفلت” Asphalt على قميصها، موضحة أنه عندما يتحسن الجو في الصيف يخرج المتدربون إلى الشارع لممارسة الرياضة بشكل جماعي، مما يجذب أنظار المزيد من المارة إليهم للالتحاق بهم.
وأوضحت المدربة أن الجميع يتعاونون للترويج للعلامة التجارية للمؤسسة Brand، وأن أي متدرب يحتاج مساعدة يسارع الجميع بتقديمها له، والهدف من عمل المؤسسة هو خلق طاقة إيجابية ومنع الجريمة والتهميش.
ثم اختتمنا الزيارة بمباراة سريعة لكرة السلة.
شباب دنماركيون يلعبون كرة السلة
مدرسة المهاجرات..
ثم التقينا لون يولال Lone Yolal، مديرة المدرسة الصباحية للسيدان المهاجراتDay School for Immigrant Women (DHI86)، وهي مدرسة افتتحت منذ 32 عاما، تقدم الدعم للاجئات والمهاجرات، وتساعدهن على التأقلم مع ظروف المجتمع الجديد، وهي الوحيدة من نوعها في العاصمة الدنماركية كوبنهاجن.
وتشير “يولال” إلى أن المدرسة تقدم الدعم النفسي للسيدات، والبرامج التعليمية، كدروس اللغة الدنماركية والرياضيات، وثقافة المجتمع الدنماركي؛ لتأهيلهن للتقدم لاختبار الجنسية.
وتعاني السيدات المهاجرات واللاجئات من الضغوط النفسية والتوتر والقلق والنسيان، ومن دور المدرسة توفير الدعم النفسي وخلق “مساحة راحة” لهن، عبر برنامج “التفكير الإيجابي”، وتقديم الاستشارات، وسؤال السيدات عن أحلامهن قبل الهجرة، ومساعدتهن على تنفيذها.
وتتمثل مراحل التعليم التي تقدمها وزارة التعليم للمهاجرات في مرحلة تمهيدية، ثم أربع مراحل لتعليم اللغة تؤهل بعدها للتعليم في الدنمارك، وبرنامج لتعلم الحساب على مرحلتين، يتضمن المعاملات اليومية وحساب الضرائب، ويستغرق 30 ساعة، مقسمة على ستة أيام أسبوعيا، ولا تمنح شهادات دراسية في العادة، ويقوم بالتدريس ستة مدرسون محترفون، بخلاف إداري واحد للمدرسة.
سألتها عن سبب استخدامها “سبورة سوداء وطباشير” في التعليم بدلا من الأجهزة الإلكترونية الحديثة، فقالت: “لو وضعنا سبورة تفاعلية ربما تتعطل ولا يستطيع أحد منا أن يصلحها، وسننتظر وصول الفني المختص بها، وبالتالي نخسر يوما دراسيا، ولكن السبورة التقليدية لن تتعطل، وستفي بالغرض”.
الوفد خلال الزيارة.. وتبدو في الصورة السبورة السوداء
وتتضمن التوعية المجتمعية تشجيع المهاجرات على التصويت في الانتخابات البلدية، وهي الإمكانية التي يتيحها القانون هناك حتى لغير المواطنين، طالما أنهم يقيمون على أرض الدنمارك، وكذلك التعود على حجز تذاكر كل شيء عبر الانترنت، موضحة: “إذا لم تكن مستعدا للتعامل مع هذا النظام بكفاءة لن تستطيع العيش”.
ولفتت مديرة المدرسة إلى أن زوج السيدة هو الذي يمول دراستها بالمدرسة؛ لأنها لا يُسمح لها بالعمل في هذه المرحلة، كما أن الحكومة لا تمول هذه المدرسة.
الجدير بالذكر أن برنامج المدرسة يبدأ بعد انتهاء البرنامج التدريبي للصليب الأحمر، الذي يستغرق ثلاث سنوات، بعدها يكون على السيدات اتخاذ قرارهن بشأن نمط حياتهن.
وتستقبل المدرسة سنويا من 34 إلى 36 سيدة، وتتنوع الجنسيات ما بين الصومال والعراق وسوريا والهند وبنجلاديش وتركيا ومقدونيا، بالإضافة إلى بعض الدول الإفريقية.
وأشارت مهاجرة سورية إلى أنها جاءت إلى الدنمارك منذ 12 عاما، برفقة زوجها الفلسطيني، وهي تتعلم وتستفيد من المدرسة، ولكن ممنوع اصطحاب أبنائها إليها، لذلك تتركهم في حضانة أطفال، واتفقت معها مهاجرة عراقية وصلت الدنمارك منذ 11 عاما، لتلتحق بزوجها وعائلته التي كانت تعيش أصلا في الدنمارك.
أعقب ذلك غداء شهي أعدته لنا سيدات المدرسة.
مائدة المهاجرات للوفد المصري
وفي زيارة إلى منزل السفير المصري بكوبنهاجن، حث السفير أيمن صلاح القفاص الوفد على العمل والاجتهاد لخدمة مصر، ومحاولة تطبيق ما يفيدنا من التجربة الدنماركية في مصر، عبر المؤسسات التعليمية والمجتمعية المختلفة.
الخلاصة أن المجتمع الدنماركي لا يتعامل مع التعليم باعتباره “شهادة”، وإنما تعليم من أجل العمل ومن أجل حياة أفضل، أي أنه بلد “مش بتاع شهادات”.
لا يوجد إنسان غير صالح للعمل، وإنما يوجد دائما مفهوم إعادة التأهيل التدريب وتطوير المهارات، بما يرفع مستوى العامل الضعيف، ويضمن استمرار كفاءة العامل الكفء.
والحكومة لا “تملك” الدولة، ولا تتحكم، ولا تتدخل إلا بقدر محدود، وإنما تفسح المجال العام للمجتمع المدني للعمل، ودورها “تيسير” حياة المجتمع والناس، وتوفير التمويل قدر الإمكان، مع تفعيل دور الجهات المانحة غير الحكومية. وفي المقابل لا يتعامل المجتمع مع الحكومة باعتبارها “بابا وماما”، ويطالبها بتوفير كل شيء، بل يجتهد ويساعد نفسه بنفسه.
“المعاناة” ليست مكونا من مكونات التعليم، وإنما التعليم قد يصبح “متعة” حقيقية تجذب المتعلمين، وتزيد انتفاعهم به، وتثير شغفهم نحو المزيد منه.
المجتمعات السليمة تتبنى في حياتها العلم والتخصص والتخطيط، لا الفهلوة والعشوائية والمصادفات.
وعموما فإن لهذه التجربة بالتأكيد إيجابياتها، وسلبياتها، المهم أن نأخذ منها ما يناسبنا ويساعدنا على بناء حياة أفضل.
محمد وليد بركات يكتب: التجربة الدنماركية في التعليم.. الحلقة ( 4 )
شاهد: أبرز الأحداث التي شغلت الوسط الثقافي خلال عام 2018