–1–
تنزل من سيارتها اللادا بنية اللون، بعد أن تقوم بركنها تحت شجرة كبيرة وظليلة أمام باب الكليه ، لعلها تحافظ على ما تبقى من طلائها وخيوط لونها الباهتة، تمسك بيديها حقيبة جلدية منتفخة بالأوراق والكتب ، وعلى وجهها نظارة سوداء كأنها صممت خصيصا لها، تسير في اتجاه باب الكلية كجنرال، رافعة رأسها الى أعلى قليلا فيما يشبه آلهة الاغريق القديمة، تخترق صفوف الطلبة المتراصين على السلم، ترد التحايا بنصف ابتسامة، تدخل الى مكتبها و تشعل سيجارتها الرفيعه.
لم أمل من متابعتها في أيامي الأولى بالكلية، كان ذلك من الطقوس المحببة إلى، فقد كان حضورها لافتا يجبرك أن تسأل من تكون هذه السيدة ؟
وفي احدى المرات ذهبت الى حارس أمن الكلية وسألته عنها ، رد علي بصوت خفيض ومرتعش ، كأنه يخشى أن يسمعه أحد :
دي الدكتوة عواطف عبد الرحمن أستاذة الشيوعيه في الكلية !
–2–
كان يدرس لنا المفكر الدكتور حسن حنفي في عامنا الدراسي الأول مادة بعنوان فكر عالمي معاصر ، يشرح لنا فيها أهم التيارات الفكرية والمذاهب السياسية ، وحين بدأ في شرح مفهوم الشيوعية ونشأتها استحضرت على الفور صورة الدكتورة عواطف ، وكان يخيل الى أنها المبعوث الخاص لماركس ولينين في الكليه … حينما تتأمل مشيتها في طرقات الكلية ستشعر بالفعل أنها خارجة للتو من اجتماع سري للحزب الشيوعي الروسي.
أحد الاصدقاء كان يحذرني من الافتتان الشديد بشخصيتها، ويقول لي: اوعى تجندك !
عشت أياما في حيرة وتردد وأنا أتابعها، أمر أمام مكتبها كالمتلصص، أسترق بعض النظرات وهي تناقش طلابها، وفي أحد الأيام تجرعت حبوب الشجاعة ، وطرقت باب مكتبها ، أجلستني بجوارها وبسذاجة منقطعة النظير… سألتها :
-هو حضرتك فعلا شيوعية.
– لا أنا صعيدية … قالتها بصوت واثق مصحوبا بضحكة خفيفة.
هي أستاذة الصحافة – ابنة قرية الزرابي مركز أبو تيج بمحافظة أسيوط – التي لا تغيب عن ذاكرتها وتراها حاضرة دائما في أحاديثها ، فهي مشدودة اليها دائما ، تتلمذ على يديها أجيال من الصحفيين ممن يتصدرون المشهد الصحفي في مصر الآن ، لم أتتلمذ للأسف على يديها بشكل مباشر لالتحاقي بقسم الاذاعة والتليفزيون ، لكن جلساتي وحواراتي معها في مكتبها والتي كانت تمتد لساعات لا أنساها، حوارات تعادل عشرات المحاضرات من أساتذة آخرين ، العلم بالنسبة لهم مقررات وملازم بائسة ومعلومات محفوظة ومعلبة ، ما يميز الأستاذة أنها تحفزك على السؤال لا تقدم اجابات جاهزه لأي ظاهره ، وبالرغم من التزامها بالفكر اليساري الا أنها كانت تسمح لطلابها بالاختلاف والنقاش الفكري دون أن تفرض رأيها ، عشقها للصعيد والجنوب جعلها منحازة دائما لقضايا الانسان المهمش الذي يغيب عن أضواء الاعلام ، هي مدافعه شرسة عن قضايا المرأه دون أن تغلف آراءها بنزعة نسوية زاعقة
قضايا الجنوب وافريقيا والعالم الثالث والتبعية الاعلامية والثقافية والاستقلال الفكري والتحرر من الهيمنة الغربية واستقلال الجامعه – هي من مؤسسي حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات- قضايا عديدة دافعت عنها وحاربت لأجلها، لم تحجبها أسوار الجامعه عن المجتمع وقضاياه ومشكلاته، فكانت دائمة الاشتباك بقلمها مع المجتمع وهمومه، أضافت للمكتبة الاعلامية العربية العديد من الكتب التي تحمل نهجا مغايرا في الكتابة والتحليل بعمق للظواهر الاعلامية المختلفة وربطها بالسياقات الاجتماعية والثقافية ، دون أن تقع في فخ الكتابة الأكاديمية الجافة ، في الوقت الذي يغرقنا فيه عدد كبير من باحثي الاعلام في متاهات الجداول والأرقام والاحصائيات التي لا تعكس في أغلبها فهما حقيقيا للظواهر الاعلامية، بقدر ما تعكس استعراضا علميا خاويا في كثير من الأحيان، من أهم مؤلفات الدكتورة عواطف عبد الرحمن : قضايا التبعية الاعلامية والثقافية في العالم الثالث، مقدمة في الصحافة الافريقية، فجر الصحافة العربية ، المرأة العربية والاعلام، دراسات في الصحافة المصرية المعاصرة.
–3–
( اذا لم تكن شيوعيا في العشرين من عمرك فلا قلب لك، واذا بقيت شيوعيا في الخمسين فلا عقل لك )
ذكرت لها هذه العبارة في محاولة فاشلة لاستفزازها وأنا أسجل معها حلقة من برنامجي (مشاهير ومشاوير) بقناة النيل الثقافية ، كان ذلك في نادي الصجفيين بشارع البحر الأعظم بجوار منزلها، كان ردها أن اعتناق الفكر اليسارى هو اختيار عقلي وليس اختيارا عاطفيا، والمثقف الحقيقي وظيفته هو أن يزعج ويقلق السلطه وأن يكون على يسارها دائما، أتذكر تفاصيل هذه الحلقة جيدا في صيف 2007، وتحضيري لها الذي استمر لاسبوعين وأتاح لي أن أقترب منها انسانيا ، ما جعلني أكتشف مساحات ثريه في تفاصيل حياتها
–4–
بعد مرور سنوات عديدة.. وفي احدى زياراتي لكلية الاعلام ، لمحتها تنزل من سيارتها اللادا – أصبح لونها كالحا بفعل الزمن – تجددت دهشتي القديمه، وأخذت أتابعها، تصعد سلم الكلية بوقارها المعهود وعلى وجهها نظارتها السوداء، وبيديها نفس الحقيبة.
لعلها ستدخل مكتبها بعد قليل وتشعل سيجارتها، وتواصل حلمها باعلام متحرر من تبعية الغرب وبجامعة مستقلة حرة، وبأبناء قريتها اللذين ما زالوا على هامش الحياة
لم أحب الشيوعية لكنني أحببت عواطف عبد الرحمن .