قبل عامين من وفاته يقف في ختام مسلسل “الشهد والدموع” ليقدم جملته الخالدة “منه له، جاي رايح؛ منه له” بصيغة وملامح تعتصر القلب، وكأنه يرثي نفسه، الملامح تقطُر ألمًا، يختزل الرحلة في مشهد واحد، يتماهى مع الحزن ويذوب معه بشكلٍ لا نهائي؛ ليُقدم واحدة من أفضل أعماله على الإطلاق وأكثرها تأثيرًا.
لكن السؤال هنا؛ كيف فعلها عبد المنعم إبراهيم بهذا الشكل، وبهذا الحزن الهادر؟
وللإجابة نعود إلى الوراء، تحديدا عام 1945 حين توفيت والدته مباشرةً قبل اختبار معهد الفنون المسرحية، ليذهب إلى الامتحان وهو ضائع، مشتت الفكر، يغالبه هاجس الرفض والفشل.
لكنه ينجح، يتفاجأ بالنجاح بعد أن قدم مقطعًا باللغة العربية مُطعّمًا بالحُزن أثناء الاختبار، أمام لجنة تتكون من زكي طليمات وجورج أبيض وحسين رياض ويوسف وهبي ونجيب الريحاني!
نرشح لك: نعيمة وصفي: جولفدان هانم التي أفسدت جشع التجار
لقد أفاده الحزن، وقدم له هدية العُمر بالأسى الصادق الذي انتقل من قلبه إلى قلوب كبار لجنة الاختبار؛ نجح رفقة زميله عبد المنعم مدبولي إلى جوار ثمانية عشر طالبًا آخرين من أصل 1500 طالب قدموا في المرحلة الأولى!.
لكن “جدعنة” الأحزان دامت مع “الخواجة” -اللقب الذي أطلقه عليه محمود السعدني- حيث زارته للمرة الثانية، وتكرر السيناريو ولكن بشكل أكثر درامية، حيث أبلغته الأحزان بموعد وفاة زوجته، عن طريق أحد سفرائها “الطبيب المعالج”، قبلها بستة أشهر كاملة؛ وبالفعل توفيت وتركت خلفها أربعة أطفال أصغرهم يبلغ من العُمر سنة واحدة!.
يتحدث عن صعوبة تلك الفترة، المرارة تمتد من كلماته لتقفز إلى قلب المشاهد، يدعو الله ألا يتعذب أحد مثلما تعذب في تلك الفترة، لكنّه يعترف أنه استفاد من تلك الأحزان في تأدية الأدوار التراجيدي!.
يقول عنه الكاتب الكبير محمود السعدني في كتابه “المضحكون”: “موهبته عريضة مثل السمك البلطي، وناعمة ورقيقة مثل حرير اليابان، ومتعددة الألوان مثل يفط الإعلانات، ورغم ذلك فهو أقل المضحكين الكبار حظًا وأقلهم فرصة”.
يؤمّن عبد المنعم إبراهيم على ما كتبه “السعدني” عنه في الكتاب عموما، ويعبر عن امتنانه لهذه الكلمات ويتفق على ما جاء فيها بنسبة 80%.
والحق أن الكوميديان الكبير أفلت من مقصلة “السعدني” التي طالت الجميع بين دفتي هذا الكتاب، حيث أن “السعدني” كان لاذعًا إلى حدٍ كبير مع الغالبية العظمى من هؤلاء الكوميديانات، حتى إنه في الفصل الذي تحدث فيه عن عبد المنعم إبراهيم قال عن يوسف وهبي “فلا زلنا رغم كل شيء أسرى مدرسة يوسف وهبي، وهي مدرسة افترضت عند قيامها منذ نصف قرن أن المتفرج حمار ومسطول وغائب عن وعيه”!.
في كل الأحوال يختم “السعدني” حديثه عن عبد المنعم إبراهيم ختامًا رائعًا فيقول: “ورغم ذلك سيظل عبد المنعم إبراهيم أكثر المضحكين احترامًا وأعظمهم مكانة لدى المثقفين وخصوصًا الذين تثقفوا في الغرب وسيضحك من الأعماق لفنه هؤلاء الذين يضحكون لأوسكار وايلد ومارك توين”.
ورغم أن “السعدني” يرى أن إبراهيم كوميدان “خواجة” من حيث الشكل وطريقة الطريقة؛ إلا أن هذا الخواجة جاءت حياته ونشأته مصرية خالصة؛ حيث ولد الطفل عبد المنعم إبراهيم محمد حسن الدغبشي 24 أكتوبر 1924 في بني سويف، لكنه ينتمي أصلًا إلى قرية ميت بدر حلاوة بدلتا مصر، عاش في بني سويف ثلاث سنوات قبل أن تنتقل الأسرة إلى منطقة “الحٌسين” ومنها إلى “السيدة” وهناك عاش وشاهد الحياة وتفتق ذهنه عن الفن الذي شاهد جانبًا من مسرحياته مع والده في الأزبكية، وأبرزها مسرحيات “علي الكسار” معشوق الجماهير وقتها؛ ربما لم يتأثر وقتها بشكل ظاهر من الكسار، لكنّ التأثير كان أعمق، فقد كانت التحضيرات للفنان الحقيقي بداخله تعمل على نار هادئة، وهو ما دفعه في التاسعة من عمره لخلق مسرح “الجُرن” في الصيف في ميت بدر حلاوة مع أقرانه من الأطفال؛ يقومون بمحاكاة شخصية العمدة وما يُعرض عليه من قضايا، ولم ينسى إبراهيم وزملاؤه “الماكياج” فكان عبارة عن حرق شواشي الذرة وناتج الحريق يصنع منه الجميع شواربهم ولحاهم!.
بعد التحاقه بمدرسة الصنايع تعرف على عبد المنعم مدبولي وعدلي كاسب وقدموا أعمالًا مسرحية على مسرح الأزبكية بدءًا من عام 1942، بعدها التحق الثلاثي بمعهد الفنون المسرحيّة في دفعته الثانية، رفقة كبار النجوم “فاتن حمامة وسميحة أيوب وفريد شوقي وشكري سرحان وصلاح سرحان وعمر الحريري”، ونجح بالفعل وتخرج من المعهد عام 1949.
يقول عبد المنعم إبراهيم إن مسألة الكوميديا جاءت خلال مسرحية “الجامعة العربية” في السنة الأولى في المعهد والتي قام فيها بدور “لبنان”، وأثناء دخوله للمسرح مرتديًا ملابس خاصة بالدور وملقيًا لبعض الأبيات باللغة العربية الفُصحى، انخرط الجمهور في الضحك حتى إنه لم يستطع إكمال الأبيات، ومن وقتها قال له زكي طليمات إنه سيكون كوميديانا، بل واكتفى بما قدمه في تلك المسرحية ليمر من الصف الأول إلى الصف الثاني بالمعهد من دون اختبارات!.
ومن بعدها ينطلق نحو مسيرة طويلة من العطاء، متنقلًا بين المسرح والإذاعة والسينما والتلفزيون بعلامات واضحة، وإن قلت المساحات أو اختلفت، فلا أحد ينساه في “سكر هانم”، واحد من أفضل الأدوار التي أحبها الجمهور ولا يزال يتذكرها للنجم الراحل.
أو محروس في فيلم “إشاعة حب”.
أو “سر طاقية الإخفاء”.
أو السيدة التركية في فيلم “أضواء المدينة”.
والحقيقة أن عبد المنعم إبراهيم ألطف من قام بدور “السيدة” وقام بإضحاك الناس دون ابتذال خصوصًا في “سكر هانم، وإشاعة حب، وأضواء المدينة”، ولا عجب في ذلك فعبد المنعم إبراهيم يحب الكوميديا الراقية ويقول في ذلك: “اخترت الكوميديا الأخلاقية دون غيرها من الأنواع وأتمنى أن يختارها الكل”.
توفي في 17 نوفمبر ودفن في قريته “ميت بدر حلاوة”، التي كانت قريبة إلى قلبه ومنها بدأ مشوار من الجُرن إلى عالم الأضواء والشهرة.
شاهد: أبرز حفلات النجوم في ليلة رأس السنة