أمنية طلعت
لا يحتاج الأستاذ إبراهيم عبد المجيد إلى شهادتي، هذا هو ما أشعر به فعلًا وأنا أكتب عنه، فهو ببساطة ودون أدنى مبالغة عراب الأدب المصري خاصة الرواية، فمن منا لم يصله الإلهام من حالته الإبداعية الفريدة حتى ولو كان يراقبه أو يتابعه عن بعد، فهذا الرجل يمتلك قدرة مدهشة على الحكي، وقريحة متدفقة دائمًا وأبدًا كي يقدم في كل مرة كتابًا يحمل معنى أو قيمة إبداعية جديدة، سواء كان الكتاب رواية أو دراسة أو مجموعة مقالات، فما بالك لو كنت قريبًا منه، تلمس إبداعه الشخصي في كل مرة تجلس إليه؟؛ لكن دعوني أحكي عن واقعة واحدة لي معه، شكلت الكثير لدي على طريقي الإبداعي.
نرشح لك: هشام صلاح يكتب: “من فات قديمه تاه”.. نداء خاص لعمرو دياب
عندما استطعت بعد ثلاث سنوات من انتهاء كتابة روايتي الأولى “طعم الأيام”، أن أجد ناشرًا لها، حيث رفضتها دور نشر كثيرة بدعوى أنها رواية طويلة لن تجد قارئًا لها، لما انتشر آنذاك من “نوفيلات قصيرة” غزت السوق المصري، ولم أكن أعيش في مصر آنذاك، وبالتالي لم أستطع أن أتواجد مع روايتي لتوزيعها على النقاد والكُتاب للكتابة عنها، ونظرًا لأن الرواية شكلت مسارًا مختلفًا لما اعتاد الجميع عليه في الكتابة النسائية، حيث كانت رواية سياسية اجتماعية ولا علاقة لها بما يعرف بالكتابة النسوية.
انتشرت شائعة بأن رجلًا ما كتب لي هذه الرواية، وهو ما ساءني كثيرًا حيث أفنيت ما لا يقل عن ست سنوات في دراسة أحداث الرواية وكتابتها، هذا غير حزني عليها لأنها لم تجد حظها في النشر لمدة ثلاث سنوات أخرى، فوجئت بمقال منشور في “روز اليوسف” بقلم إبراهيم عبد المجيد عن الرواية، ولم أكن قد قابلته من قبل، يرد فيه بعبقرية مفرطة على ما انطلق من شائعات، حيث حلل بذكائه الإبداعي أسلوب الكتابة مؤكدًا أن الرواية رغم أنها سياسية بامتياز إلا أنها مكتوبة بحس أنثوي من الصعب أن يخرج من بين أصابع رجل. أتذكر جيدًا كيف جعلني مقاله هذا أبكي وأنا لا أصدق أن الأستاذ الكبير كتب عن روايتي بمثل هذا الإبداع والصدق، دون أن يقابلني أو حتى يتحدث معي من قبل، فاتصلت بالصديق الصحفي والكاتب المرموق سيد محمود وحصلت منه على رقم هاتفه لأتصل به وأشكره على مقاله، ففوجئت بأنه لا يشعر بقيمة ما فعله من أجلي ويتحدث ببساطة عن أهمية روايتي، هذا الأديب الكبير الذي يمتلك بالفعل ناصية الكلام يشيد برواية لروائية غير معروفة ولا يعرفها هو نفسه على المستوى الشخصي.
عندما زرت القاهرة بعد ذلك فوجئت بأن كثيرين قد قرأوا “طعم الأيام” بناء على نصيحة الأستاذ، الذي كان يرشح روايتي لكل من يقابله ويتحدث عنها بحماس وكأنها روايته الشخصية. هذا الاحتفاء البديع الذي كنت أعتقد أنه يختصني به وحدي، اكتشفت أنه يقدمه لكل المبدعين الموهوبين الذين يقدمون شيئًا مختلفًا، وأنه يكرس جزءًا كبيرًا من وقته لمتابعة كل ما هو جديد ليرصده ويضعه تحت الضوء بقلمه الذهبي، وهذا ما لم اعتده في الوسط الثقافي المصري الذي أعرفه عن كثب، فلقد عملت داخله كصحفية ثقافية منذ نعومة أظافري، ما جعلني أهرب وأنزوي بعيدًا عنه لما يمتلئ به من أحقاد ومؤامرات ونميمة حتى من الكبار تجاه الصغار، وهو ما لا يفعله إبراهيم عبد المجيد الذي حفر اسمه بنفسه دون مساعدة من أحد، وهذا ما تعلمته منه عندما قابلته وحكى لي عن مسيرته الشاقة التي تعرض فيها للمؤامرات والدسائس لإقصائه بعيدًا عن العالم الذي يرغبون في الاستئثار به وحدهم دون تميّز إبداعي حقيقي.
تعلمت من الأستاذ أن أركز على إبداعي دون النظر إلى من حولي، ودون انتظار لذهب المعز وسيفه، فالإبداع الحقيقي يصل مهما تآمر عليه المتآمرون، وأن التكالب على المكاسب الوقتية لن يعطي سوى مكسب لحظي، وسيختفي كل غث أمام الثمين مع الوقت ومرور الزمن، وهو ما يجسده إبراهيم عبد المجيد بحالته الإبداعية في عالم الأدب المصري، فهذا الرجل ورغم كل محاولات التعتيم عليه أصبح اليوم ودون مبالغة العراب الوحيد للرواية المصرية، واختفى كل من استأثروا بالمناصب والجوائز بدسائسهم وحروبهم، وبعد أن كانوا يخطفون الكاميرا مهمشين غيرهم، لم تجد الكاميرا في النهاية سوى الأستاذ إبراهيم عبد المجيد لتسلط ضوءها عليه، فـ للأستاذ محبة خالصة وفرحة بأنني أعيش في عصر هو يتوجه.
شاهد: يحدث في مصر في 2019