لا يمكن أن تذكر إبراهيم عبد المجيد دون ذكر الإسكندرية أو تنعته بالسكندري، وكأنه جزء لا يتجزأ من شخصيته وأعماله، فعلاقته بالإسكندرية علاقة فريدة، أشبه بالعاشق والمعشوق. كثيرًا ما يصل كاتب للعالمية بدقة أعماله وتميزه وتفرده في السرد والتناول، لكن إبراهيم عبد المجيد وصل بالإسكندرية للعالمية وكأنها مهمة أخذها على عاتقه؛ فلا يمكن أن تجالسه في ندوة أو على مقهى أو في أي سياق اجتماعي آخر دون أن يكشف لك بعضًا عن حبيبته الإسكندرية.
وكأنها مدينة بُنيت من آلاف السنين وظلت تتأهل ثقافيًا لتُكتب على يد أحد أبنائها، ظلت الإسكندرية لعدة قرون منارة الثقافة والعلم، وعاصمة العالم في العصر الهيلينستي، توالى على أرضها الكثير من العلماء والفلاسفة والأطباء، ليُعلنوا من أرضها مهد علوم إنسانية وبداية حضارية غيرت مسار العالم.
وكان للأدب والشعر حظًا وافرًا في مختلف الآونة، فنرى شعراء قد تأثروا بالإسكندرية وظهرت جلية في أعمالهم مثل “كفافيس”، وروائيين قد جعلوا من الإسكندرية مهد أعمالهم مثل: “أونجاريتي، ونجيب محفوظ الذي اتخذ من شاطئ ستانلي (صومعته) الخاصة”.
ظلت الإسكندرية واهبة للإبداع والثقافة والعلوم الحضارية، معطاءة فوصلت للعالمية بعطائها، وكأنها تُفسح الطريق لتأريخ ضخم على يد أحد أبنائها وهو: (إبراهيم عبد المجيد).
ولد إبراهيم عبد المجيد في الإسكندرية عام 1946، وتخرج من كلية الآداب قسم الفلسفة عام 1973، وانتقل للقاهرة عام 1974 حاملًا معه الإسكندرية، تعددت رواياته لكن “ثلاثية الإسكندرية” والتي اُختير منها “لا أحد ينام في الإسكندرية” ضمن أفضل 100 رواية عالمية في القرن العشرين، كانت محطته الأشهر وعلامة فارقة في إبداعه وفي تاريخ الإسكندرية؛ كمحطة توثيقية هامة لا يمكن إغفالها.
نرشح لك: هشام صلاح يكتب: “من فات قديمه تاه”.. نداء خاص لعمرو دياب
تضمنت أحداث رواية “لا أحد ينام في الإسكندرية” تاريخ الإسكندرية إبان الحرب العالمية الثانية، ومن ثم رواية “طيور العنبر” والتي تناولت الإسكندرية غداة إعلان تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وأخيرًا “الإسكندرية في غيمة” والتي تناولت الإسكندرية وتحولاتها عقب نصر أكتوبر وإسقاط سياسي لحكم الإخوان حيث صدورها عام 2012.
التقيت بالأستاذ إبراهيم عبد المجيد للمرة الأولى أوائل عام 2012 في خطوبة إحدى صديقات الوسط الأدبي، وترددت كثيرًا قبل أن أذهب لألقي التحية عليه، فهل هو حقًا الروائي العالمي الكبير يجالس الناس في بساطة وتتعالى الضحكات وصوت النقاش من المحيطين به، لكني ابتسمت من بعيد ولم ألفظ أسمه بل قلت له: “لا أحد ينام في أكاسيًا”، وهي قاعة الخطبة ذاتها ففوجئت بترحاب أزال رهبة اللقاء الأول وجعل صورته لدي صورة حميمية.
في أبريل 2012 وبعد صدور كتابيه “ما وراء الكتابة” ورواية “هنا القاهرة”، أُقيمت ندوة خاصة له والتي حضرتها مع عدد من شباب الكُتاب الشغوفين به، لاحظت معرفته لهم بالاسم وأنه يصادقهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وفرحت جدًا لتذكره لي.
ربما انعكست معرفتي بالإنسان إبراهيم عبد المجيد ودوائر الشباب المقربين له على قراءاتي لرواياته، ففي أكتوبر 2018 أُسند إليّ في أحد مراكز الإسكندرية الثقافية الكُبرى أن أُقدم دراسة نقدية لرواية “الإسكندرية في غيمة”، ففي هذه المرة أخذت قرائتي ودراستي للعمل منحى آخر تمامًا ومغايرًا للمرة الأولى التي قرأت فيها الرواية، ليس فقط للخبرة التي اكتسبتها بل لصورة الأستاذ إبراهيم عبد المجيد الحقيقية وعفويته وتلقائيته في حديثه عن محبوبته الإسكندرية، فشعرت وكأني إلي جواره طوال الرواية نسير في شوارع الإسكندرية وأحياءها، راسمين خريطة جديدة للإسكندرية، ليست المخطوطة فوق الخرائط بل تلك التي تنبض بالحياة والأحداث والتي لا يمكن لأحد أن يعرفها إلا من سُكنها ومحاكتها عن قُرب.
يظل إبراهيم عبد المجيد “ابن البلد”، الذي يحمل له الإسكندرانية تقديرا كبيرا ينبع عن محبة صادقة، لرفيق المقهى والحكايات، فقبل إغلاق مقهى “نيو كريستال” كان أمرًا طبيعيًا أن تجده جالسًا برفقة الأصدقاء والشباب. فهو حكاء الإسكندرية من الدرجة الأولى الذي لا يمكن إغفال أسلوبه المعلوماتي في السرد، الذي يجعلك في رحلة حقيقية لكل عصر يتحدث عنه بكامل تفاصيله، وهو ابن البلد الذي تجده بجوارك في الأفراح والمآتم وكأنه فرد من أسرتك، متخليًا عن أسطورة “نرجسية الكاتب وعزلته”.
هو السكندري الذي يحمل الجدعنة وشهامة ابن البلد على عاتقه وبقلبه حب للإسكندرية، هو حكاء الإسكندرية وأحد أهم أدباء العصر الحديث.
شاهد| أبرز حفلات النجوم في ليلة رأس السنة