لا أعرف إن كان منكم من مرّ بهذه التجربة المريرة أم لا! تجربة ضياع قدر كبير من مخزونك من جمال تسربه إلى روحك عبر سنوات من القراءة والبحث والتأمل.
إنها صدمة قاسية، لا أعرف ما يشبهها سوى أن يتبرع نذلٌ بإضافة مستخلص العلقم إلى زجاجة شراب مفضّل تحتفظ بها للحظة احتفال. تظل الزجاجة الأثيرة نفسها، والشراب نفسه، لكن لم يعد بمقدورك الاستمتاع به.
نرشح لك: هشام صلاح يكتب: “من فات قديمه تاه”.. نداء خاص لعمرو دياب
في أعقاب تجربة من هذه النوعية أفقدتني جانبًا كبيرًا من خزين المراهقة، اجتهدت للتدرب على الفصل بين الجمال ومن ينتجونه.. إنه أمر شديد الصعوبة؛ يمكنك الفصل بين الصنايعي وصنعته، حتى لو كانت تحفة فنية. لن يعنيني كثيرًا الإنسان صانع قطعة الديكور الجميلة، يكفيني أنها جميلة. ولكن هذا المنطق غير صالح -بالنسبة لي على الأقل- مع الشعر والأدب والفن، لذا بتُّ أتجنب لقاء من أحببت إنتاجهم، وعلى وجه الخصوص هؤلاء الذين تسللوا إلى الذات في سنواتها البكر.. يكفيني ما خسرت من مخزون.
أعانني على الأمر السفر المبكر والاستقرار خارج مصر، وساعدني أنني لم أكن من رواد تجمعات المثقفين الشهيرة، “لم أشعر أبدًا بالراحة في الأتيليه أو في زهرة البستان، وأشعر بالانقباض من مقهى ريش، واعتبر الجريون مكانًا غير آدمي”.
ما علاقة هذا الكلام بالأستاذ إبراهيم عبد المجيد؟
ثمة علاقة مزدوجة، وجهها الأول تاريخي، بالنسبة لي؛ فقد كان -أقصد بإنتاجه الأدبي- مصدرًا مهمًا من مصادر تكوين ذائقتي، منذ “ليلة العشق والدم” و”البلدة الأخرى” و”لا أحد ينام في الأسكندرية”، مرورًا بكل ما أبدع.
لا يمكن أن نحب كل ما أنتجه إنسان، ولكن أحب أن أصف لغة الأستاذ إبراهيم عبد المجيد بـ”غير المتعالية”؛ تجمع بين بساطة تتجلى في اختيار المفردات، ورشاقة تلمحها في بناء الجملة، وحسٍّ إنساني فائق يغلف حالة تأمل تجعلني أعتقد أنه ينطلق في الكتابة من باب التفكير أو الحوار مع الذات.
هذه النوعية من الكتابة تسهّل على القارئ أن يحل محل ذات الكاتب التي يحاورها في كتابته، فيحدث نوع من الانسجام -لا أقول الاندماج- مع عالم الكتابة، فالانسجام لا يمنع حالة الحوار رفضًا وقبولًا، بل يعززها.
بهذه التركيبة نجح إبراهيم عبد المجيد في تحريك مخيلتي، وهي ميزة افتقدتها -في تلك الفترة من عمري- في معظم ما طالته يدّاي من روايات أو قصص لروائيين مصريين أو عرب، بينما وجدتها في كثير من روايات الأدب العالمي المترجم التي نشأت عليها في مكتبة والدي.
عندما بدأت حياتي العملية في الصحافة -مبكرًا أثناء الدراسة الجامعية- ابتهجت بفرص التقاء مبدعين ممن أسهموا في بناء مخيلتي، وكانت صدمتي ببعضهم كفيلة بإثارة خشيتي على مخزوني الجمالي الخاص، فهو يخصني ولا يخصهم، فتفاديت هذه اللقاءات قدر المستطاع.
هذا الوجه الأول من علاقة الأستاذ إبراهيم عبد المجيد بالأمر، الوجه الآخر طريف؛ فرغم ندرة زياراتي لأماكن تجمع المثقفين، كان الأستاذ بحضوره الذي لا يمكن تجاهله موجودًا في كل مرة من المرات الثلاث التي زرت فيها مقهى “البستان”.
في كل مرة أتابعه من بعيد، مقاومًا رغبتي في مصافحته، كنت أفكر مثلًا: “على الأقل قم صافحه واشكره على مساهمته في تكوين ذائقتك، وعد إلى مكانك”، ثم أقرر ألّا أفعل، أو يساعدني هو بالرحيل مبكرًا.
في واحدة من المرات الثلاث، هاتفت الكاتب الصديق هشام يحيى، الذي يعرف الأستاذ جيدًا، وتحدثنا من قبل عن فكرة الخوف من الصدمة في من أحببنا من مبدعين؛ قلت له هو أمامي الآن، هل تنصح بأن أسعى للحديث معه؟ خلال الدقائق العشر التي حدثني فيها هشام عن مدى اتساق إبراهيم عبد المجيد فكريًا وأخلاقيًا مع ما ينتجه، كان قد غادر المقهى، فوعدني بأن يجمعنا في جلسة إذا كانت إجازتي في القاهرة أطول؛ ولكنها لم تكن.
هذه إذن فرصتي لتقدّيم التحية؛ أصافحك يا أستاذ وأشكرك على مساهمتك القيّمة في تكوين ذائقتي.
شاهد: يحدث في مصر في 2019