منذ سنوات التقيت بمجموعة من الباحثين الأجانب في مؤتمر علمي حول “إعادة كتابة التاريخ”، واتفقوا على زيارة معالم الإسكندرية التاريخية، المفاجأة هنا أن دليلهم في هذه الرحلة كانت ثلاثية الإسكندرية للأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد، استشعرت وقتها بغيرة شديدة لأنني لم أكن قرأتها بعد.. كاتبنا هنا اجتاز البحار وكسر منافذ الحدود ولا شيء يقف أمامه ولا أمام الإسكندرية، تلك المدينة التي تتخذ البحر المتوسط مكانًا لعرسها، والتي وضعت تاجها على مياهها لتجعلك تشعر وتشتم وتتنفس برائحة عبقة، وكأن ريم البحر قد اتحد مع النسيم ليخرجا لنا الإسكندرية العتيقة.
عندما تبدأ في الغوص في عالم إبراهيم عبد المجيد، تتخيل هذا الكاتب وخلفه أطنان من الجرائد والموسوعات وهو يمسك بأطراف الأحداث المسجلة والحقائق التاريخية، التي سوف يستشهد بها ومن ثم يستلهم منها أحداث إحدى شخصياته؛ التي هي عادة ما تمثل إحدى المشكلات الموجودة في زمن الكتابة وزمن النص معًا، فتراه يمسك بالجريدة الرسمية أو الوقائع المصرية ويبلغك أيها القارئ بأن شخصًا ما أصبح وزيرًا أو محافظًا أو حتى رئيسًا لحي ما، وهنا تكمن أدوات المؤرخ، ثم يقوم عمنا إبراهيم بالتقاط هذه الوثائق والسجلات ويقتنص ما له صلة بواقعه وقضايا مجتمعه الصغير وعالمه الكبير الإسكندرية الكوزموبوليتانية، ولا عجب في أن تجده يضمن روايته بنصوص مقدسة من الأديان السماوية وغير السماوية، وهنا أحيلكم بالقراءة إلى نص من نصوص أديبًا العملاق دون وصف، لأنه لا يحتاج إلى شرح.
نرشح لك: “لا مكان للملل”.. كتاب جديد لـ أحمد خالد توفيق في معرض الكتاب
“قال الشيخ مجد الدين، وأعاد (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُون)، ويعيد ويرتفع صوته ويهتز ضوء القمر يكشفه للجميع، بينما هو ذاهل عنهم تمامًا، (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُون)، وبدأت زهرة تردد خلفه وصوته يعلو، والست مريم تردد (نعم، نسألك يا الله الأب ضابط الكل لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير)، وديمتري يرد معها: ((نعم نسألك أيها الرب إلهنا لا تدخل أحد منا في التجربة هذه التي لا نستطيع تحملها من أجل ضعفنا، بل أعطنا أن نخرج من التجربة أيضًا؛ لكي نستطيع أن نطفئ جميع السهام المتقدة نارًا التي لإبليس)”.
ثم ينطلق بنا إلى العالمية فتراه يوثق لهتلر وموسوليني وغيرهم، ويسجل مواقف الدول وشخصياتها العابرة للحدود، فيشكل لنا ما أشبه بأجندة سنوية يروي فيها أحداث العالم وتأثيره على إسكندريته المعشوقة، وبالطبع على مصر كلها.
يعترف معظم الباحثين في التاريخ بندرة المواد والوثائق التي تؤرخ للحرب العالمية سواء الأولى أو الثانية خاصة فيما يتعلق بأمر جغرافيا موطنه (الإسكندرية)، وهنا لفت أديبنا الأنظار إلى مصدر مهم يمكن الاعتماد عليه في التأريخ لتلك الفترة وهو قصاصات الجرائد والمجلات وغيرها من المنشور، هذا بجانب الأخبار المتواردة بين فئات المجتمع، فمثلًا قصة هذا الذي قتل عند ترعة المحمودية، وقصة حريق هذا المنزل، وأصداء هذه القصص على مسامع الناس.
الجميل هنا بجانب السرد طبعًا الذي لن أتحدث عنه فهناك من يملك أدواته غيري، هو المشروع الفكري والسردي والروائي لإبراهيم عبد المجيد، فعندما رصد نجيب محفوظ أحياء القاهرة في الثلاثية، غار أديبنا الكبير على جغرافية موطنه “الإسكندرية” حتى لا تترك أحداثها وحكاياتها دون تسجيل، فكان حظ الروائيين الكبيرين هو العالمية.
حينما تطالع أي نص لإبراهيم عبد المجيد، يذهلك عنصر من عناصر إبداعه يمكن أن نطلق عليه “جغرافيا الحياة”، أو بعبارة أخرى – أن الروائي هنا يحدد لك موقع الأحداث عبر زمن الرواية ثم يوقعه على زمانك الحالي- فتتكشف لك الصورة وتكتمل لديك رؤية الأحداث، كما أن الثلاثية تكتنز بعلامات جغرافية وافرة وشارحة لموطنه الإسكندرية، فتراه يشرح موقع منزل إحدى شخصياته ثم يحدد موضعه من الحارة وموضع الحارة من الإسكندرية، وهو بذلك يجعلنا نرى المكان بوضوح، ولا عجب من أن ترى الأجانب والمصريين والسكندريين يسيرون على خريطة الإسكندرية التي وصفها عمنا إبراهيم في ثلاثيته.
وأما عن نمط الكتابة، فتميز “عبد المجيد” بأسلوب لغوي قوي ومتين وجميل في الوقت نفسه، وهو في ذلك يختلف عن أسلوب العديد من جيله الذين اتصفوا بإعلاء شأن الحكي عن البنية اللغوية التي قد تتصف بضعف في التراكيب اللغوية أحيانًا، فنجد “عبد المجيد” يبدأ سرده بفعل ماضِ واضح مثل” كان، راح، قامت، بدأ” وغيرها من الأفعال الصريحة الواضحة، فيتخير كل لفظ بدقة ليؤدي معنى معينًا بحيث لا يمكنك أن تجد لفظًا آخر بديلًا عنه؛ ثم يفاجئك بتعقيبه على ما سرده ويبدأ بكلمته الشهيرة “اليوم”، وهو بذلك يدخلنا في الصورة السردية ويجعلنا نشتبك في الأحداث وكأن زمن الرواية يحدث أمامنا.
كما أنه يتناول مشكلات الحياة التي نعيشها ومنبعها زمن الحكي، ويبدأ في طرح حلها من خلال الشخصية التي ركبها وطنها خصيصًا لحل هذه المشكلة التي ما زالت تتفاقم علينا حتى الآن، أما الآن ونحن في عصر الأقلام الإلكترونية، ماذا سوف يقدم لنا العملاق، وأسأله هل سوف ينام الناس في الإسكندرية؟ وهل سوف تنقشع الغيمة عنها؟ ربما..
شاهد| أبرز الأحداث التي شغلت الوسط الثقافي خلال عام 2018