(1)
بينما دخلت مقر الجريدة، لاحظت، من آخر صالة التحرير، أن أحد لا أعرفه يشغل مكتبي، وقبل أن يصله انفعالي بادرني زملاء بأنهم تركوا له المكتب في غيابي على اعتبار أنه “ابن عمك”. بعد ثوان سآخذه بالشبه، وأعرف أنه إياد ابراهيم عبد المجيد. مرت سنوات كثيرة جدًا منذ لعبنا معًا فوق سطح بيت إمبابة.
(2)
“في سن الشباب يكون لديك ترف في التعامل مع الوقت. مع التقدم في العمر تكتشف أن ما تحمله من خبرات يلح عليك في الكتابة، وما تحمله من هموم وخيالات أكبر من أن يكفيه الوقت المتاح لك. تكتشف أن الحياة لا تتسع لخبراتك، ومن ثم تجد أنه من المناسب أن تتغير بعض عاداتك. مثلًا لم يعد السهر كل ليلة في المقهى مع الأصدقاء أمرًا له جدوى. وتكتشف، على سبيل المثال، أن كل ما حضرته وشاركت فيه من ندوات، أو حققته كحضور شخصي في الحياة الأدبية، لم يعد مهمًا، فأنت وراءك رصيد من الكتابة، كما أن أحدًا لن يضيف إليك جديدًا”.
هكذا يجيب إبراهيم عبد المجيد عندما سألته، مرة، عن فكرة تنظيم وقت الكتابة، أو العمل عليها بمواعيد. صار يدرك قيمة الوقت أكثر مما مضى، وبات يستطيع أن يمنحنا عملًا كل عامين على الأكثر.
يبدو لي أحياناً أن اختيار عناوين الكتب فيه شيء من منحة سماوية. وإبراهيم عبد المجيد من المحظوظين على هذا الصعيد، فبعض عناوين أعماله تبدو كلماته عادية، لكنه يصير شعريًا حين يتصدر غلاف كتاب: “البلدة الأخرى”، “الصياد واليمام”، “لا أحد ينام في الإسكندرية”، “بيت الياسمين”، “الإسكندرية في غيمة”. هو من الأسماء الحاضرة في واقع الرواية العربية منذ سنوات طويلة، تحقق على الرغم من وجود صفّ كُتاب الستينيات بكل سطوتهم المعنوية على التلقي في كل أنواعه. وأنتج عدداً كبيراً من الأعمال، بين الرواية والقصة القصيرة والنص المفتوح: “في الصيف السابع والستين”، “المسافات”، “ليلة العشق والدم”، “سفن قديمة”، “غواية الإسكندرية”، “هنا القاهرة”.
والعلاقة بين إبراهيم عبد المجيد وبين الخيال علاقة خاصة، فأنت لا تستطيع وضعه في منطقة كتاب الفانتازيا أو الواقعية السحرية رغم أنه ينهل، أحيانًا، من منطقة تقف على بعد من السرد الواقعي، غير أنه يشبُك بخيوط رفيعة ما بين الواقع والجموح. مثلًا، في روايته “قطط العام الفائت”، ستمشي بين واقع صرف يختلط بالغرائب. هنا ثورة اندلعت في بلد ما، بينما يتزامن اندلاعها مع يوم جمعة الغضب في مصر، الثامن والعشرين من يناير عام 2011، ولكن في ذلك البلد الآخر، يواجه الثوار حاكمًا لديه قدرات سحرية، فيستطيع أن يلقي بالناس إلى أعوام سابقة في الزمن، ومن هنا يلقي بكل شباب الثورة المحتشدين في الميدان إلى العام الماضي.
(3)
في بداية حياته، خاض إبراهيم عبد المجيد تجربة العمل السياسي عبر التنظيم الحزبي، إلا أنه أقلع عنها مبكرًا للتفرغ للكتابة الروائية والقصصية، وإن ظل يكتب المقالات الاجتماعية والسياسية. لكن الحماس أخذه مجددا بعد ثور يناير، لذا لم يمانع أن يكون عضوًا في مجلس أمناء الحزب الديمقراطي المصري الاجتماعي، غير أن ما شجعه على هذه المسألة هو كون المنصب استشاريًا، لن يكلفه كثيرًا من الوقت والجهد: “أخذني الحماس غير أنني أعرف قدراتي الصحية”.
وعلى أنه يكتب بانتظام في الشأن العام، يرى عبد المجيد أن المثقفين أصبحوا يعيشون حالة يأس، وليس انشغال أو عدم اكتراث: “لقد تكلموا كثيرًا ولا فائدة، وكتبوا كثيرًا ولا فائدة ولا استجابة لما يكتبون”. قال لي مرة إننا “نعيش مرحلة تجاوزت فيها الغرائب كل خيال ممكن، وبالتالي هي مرحلة يمكن أن تصيب المثقف بالصمت، ومع ذلك هناك من لا يتوقف عن الكتابة. لكن الأهم، هل هناك نتيجة؟”.
(4)
منذ عامين، تقريبًا، أصدرت دار “الشروق” طبعة جديدة من ثلاثية الإسكندرية. كانت طبعة فاخرة مجموعة في صندوق أنيق: “لا أحد ينام في الإسكندرية”، و”طيور العنبر”، و”الإسكندرية في غيمة”. في توقيع الطبعة الجديدة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، داعبه صديقه القاص سعيد الكفراوي، معلقًا على الطبعة الفاخرة: “دلوقت يا أبو خليل إنت عملت كل حاجة، تقدر ترتاح بقى”، والحكاية سردها عبد المجيد بنفسه، معلقًا: “الله يجازيك يا سعيد…”