أن يحمل فيلم اسم إبراهيم عيسى مؤلفا، هو تحريض مباشر لعقلك بالتفكير والسؤال والمراجعة لقناعاتك الثابتة، وهو موعد مع جدل مثير بدأ قبل الفيلم فيما كتب حول سماح الرقابه بعرضه، وسيستمر برأيي من بعده طويلا.
فيلم ” الضيف” فيلم “مختلف عليه” فهو صرخة صادمة وكاشفة لعل عقولا منغلقة تتفتح بعض الشيء لتراجع أفكارها القديمة، والمتأمل لكتابات إبراهيم عيسى في السنوات الأخيره يلاحظ سعيه لمحاولة تحرير فهمنا المغلوط للدين ودوره في حياتنا، وإن كان “تجديد الخطاب الديني” موضة هذه الأيام – يكتب عنها كل من هب ودب – فيحسب لعيسى أنه من القلائل الذين تصدوا لهذا الأمر وكتبوا فيه بوعي واقتدار وفهم واستيعاب للتراث قبل مساءلته ونقده ، والسؤال هل نجحت صرخة عيسى في تجديد الخطاب الديني سينيمائيا كما نجح في كتبه ومقالاته وبرامجه؟!
في الحقيقة ما يصلح للقول في برنامج تليفزيوني أو مقال صحفي أو بين دفتي كتاب، ليس بالضرورة يمكن أن يكون صالحا للفن والسينما وإثارة الدهشة، تلك الدهشة – الرهان والتحدي الصعب لصناع أي عمل سينمائي- كانت غائبة وافتقدتها بشدة وأنا أتابع فيلم “الضيف” التجربة السينمائية الثانية لإبراهيم عيسى، والذي بدا فيها مصرا على أن يوغل في ذاتيته وحضوره دون الاستفادة من أخطاء تجربته الأولى “مولانا”، ودون الالتفات أن للسينما شروطها ومنطقها الخاص، فيغوص بنا عميقا في فخ المباشرة والتقريرية في الحوار- صاحب البطولة المطلقة في الفيلم- والتي خصمت برأيي كثيرا من جودته وحيويته.
فمن المشهد الأول للدكتور يحى حسن التيجاني الذي يقوم بدوره الفنان خالد الصاوي – تتشابه ملامحه الشكلية وحركاته وايماءات وجهه مع المفكر الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد إلى حد كبير– سرعان ما تكتشف أنك أمام وجه إبراهيم عيسى، يطل عليك عبر شاشة السينما بأفكاره وآرائه، هو الذي ينطق ويتحاور وينفعل ويتكلم!
الدكتور التيجاني الذي ألف اثني عشر كتابا ومجلدا لتجديد الخطاب الديني وتنوير عقول الناس هكذا يقدم نفسه والمتهم بازدراء الدين الإسلامي، يعيش مع زوجته مارلين وابنته الوحيدة منتظرا الضيف أسامة المهندس الدكتور – أحمد مالك- عريس ابنته الإرهابي نتابع في الفيلم الذي اتسم ببطء الإيقاع في جزئه الأول حوارات دكتور التيجاني الفكرية مع حرسه الشخصي وزوجته والشغالة والضيف عريس ابنته عن البخاري والحجاب والصوفية وازدراء الأديان وتاريخ الخلافة وحقيقتها واضطهاد العلماء المسلمين كابن سينا وابن حيان وكأنك في حصة تاريخ أو تتابع برنامج توك شو عبر شاشة تليفزيون!
يتصاعد الخط الدرامي للفيلم فجأة في المشهد الذي يخرج فيه أسامه المسدس الذي خبأه في اللوحة التي أهداها للدكتور التيجاني ويجلسه على مكتبه بإذلال، ويجبره على أن ينتحر أمام أسرته بالمسدس أمام كاميرا الموبايل ويعلن توبته عن أفكاره التي تهدم الإسلام، ويجري التيجاني حوارا معه يمكن أن نعنونه بحوار صحفي مطول مع إرهابي!
لم يهتم الفيلم ببناء الشخصيات وتلمس جذورها وتطورها بالقدر الذي يقنعنا فنيا، فلم نعرف سر تحول شخصية أسامة المهندس الذي درس بأمريكا ويسكن في التجمع إلى إرهابي؟ ولماذا تعلقت به ابنة الدكتور تيجاني التي تربت في بيت منفتح فكريا لأب مسلم وأم مسيحية؟ وماسبب تحول دكتور تيجاني نفسه من الفكر المتشدد في بدايات حياته – ذكر أنه شارك وهو شاب في تحطيم محل شرائط فيديو فدفعه ذلك لكراهية الفكر المتشدد؟ّ!
شخصية وجدي عبد الصمد رفيق الدكتور تيجاني الذي كان متشددا، ولمح صورته أسامة في مكتبته واتهمه بأنه سبب تعذيبه من قبل الدولة حينما انتقد أفكاره وأنه جاء لينتقم له، كان يمكن أن يكون خيطا دراميا مهما ومحركا للأحداث .. عدة خيوط ومساحات درامية كان يمكن الإمساك بها لكنها أفلتت من أيدي صناع الفيلم. تنقلت كاميرا المخرج هادي الباجوري بهدوء في لوكيشن واحد فيللا التيجاني ما بين الصالة والمطبخ وحديقة الفيلا والمكتب الذي شهد ذروة تصاعد أحداث الفيلم، لم تغادر الفيللا إلا في بداية الفيلم في مشهد المقهى القريب من المحكمة التي ذهب إليها مع محاميه، مع محدودية أماكن التصوير إلا أن ذلك أفاد المخرج أن يضع مشاهده في حالة شعورية ونفسية متسقة رغم بطء الإيقاع خصوصا في الجزء الأول، ونلاحظ عدم لجوء المخرج لتوظيف الموسيقى التصويرية طوال مدة الفيلم، وكان الاعتماد فقط على أصوات الاسطوانات التي أسمعها الدكتور تيجاني لأسامة في مكتبه لأم كلثوم وترانيم فيروز.
على مستوى الأداء التمثيلي، لم يكن الصاوي في أفضل حالات لياقته الفنية وتوهجه المعتاد لكنه اجتهد خصوصا في تقديم صورة المفكر مصحوبة بخفة دم مقبولة بعيدة عن الصورة النمطية للمثقفين والمفكرين، أحمد مالك موهبة تنضج على مهل، يدقق في اختياراته الفنية، نجح إلى حد كبير في نقل إحساس الشاب الحائر غير المتزن وإن كان يحتاج في بعض المشاهد لضبط انفعالاته، جميلة عوض موهبة قادمة بقوة ، أداء شيرين رضا في دور مارلين كان مختلفا وإضافة لها.
ظهور ماجد الكدواني، ومحمد ممدوح كضيفي شرف كان لطيفا وكوميديا، لكنه لم يوظف في أحداث الفيلم بشكل جيد.
بعد مغادرة قاعة السينما تساءلت: هل ما شاهدته ينتمي لما يعرف نقديا بسينما المؤلف التي تقوم من الألف إلى الياء على إبداع المؤلف وصاحب الورق، في تجربتنا السينمائية المصرية كان المؤلف والمخرج شخصا واحدا ، كما صنع يوسف شاهين ثلاثيته الشهيرة (إسكندرية ليه، حدوته مصرية، وإسكندرية كمان وكمان) ، ويسري نصر الله في أعماله الأولى، ربما يحاول عيسى أن يكون له مشروعه السينمائي الخاص بموازاة مشروعه في الكتابة، لكنه لم يدرك أن لغة السينما تختلف عن لغة الكتابة، ليس عيبا أن يحمل بطل الفيلم أفكار عيسى وأن يعبر عنها، لكن لا يكون ذلك على حساب عناصر الفيلم الأخرى .. فظلم عيسى المخرج وصناع الفيلم بظله الذي لم يغب.
مولانا إبراهيم عيسى، لقد أثقلت على ضيفك بأفكارك ورؤيتك – ولقد كان ضيفا ثقيل الروح والعقل بالفعل – لكنك لم تجد التعامل معه بخفة ورشاقة الفنان!
شاهد: كيف احتفلت دول العالم ببداية 2019؟