تابعت إحدى حلقات سلسلة وثائقية بعنوان “نهايات غامضة” تذيعها فضائية الجزيرة (المارقة)، وكان بطل الحلقة المناضل الفلسطيني الراحل وديع حداد، القيادي المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وصاحب التاريخ النضالي المشرف، وصاحب شعار “وراء العدو في كل مكان”، والذي حققه فعلًا من خلال عمليات خطف الطائرات الشهيرة في مطلع سبعينات القرن الماضي قبل أن تنتهي حياته عام 1978 في ظروف غامضة وتتفرق اتهامات قتله حائرة بين ثلاثة دول هي العراق والجزائر أخر بلدين عاش على أرضهما، ثم ألمانيا حيث مات في إحدى مستشفياتها قبل أن تستقر الجريمة في النهاية عند إسرائيل التي اعترفت قبل سنوات باغتياله.
تابعت قصة البطل الفلسطيني وأنا استرجع في أسى التراث المنسي للقضية الفلسطينية، وبينما كنت غارقًا في تأملاتي باغتني نجلي العزيز، الذي تسلل هاربًا من دروسه ساخرًا: “ده إرهابي.. بيخطف طيارات ويرعب الناس.. زي صاحبك إبراهيم يا بابا؟؟”، فنهرته ليعود إلى مذاكرته متحججًا بها كي أمنح نفسي وقتًا للتفكير، قبل أن أدخل في مبارزة فكرية يهزمني فيها صغيري كما فعلها من قبل عندما اضطر مغصوبًا أن يشاهد معي فيلم “في بيتنا رجل” المأخوذ عن قصة حقيقية أبدعها في رواية، أستاذنا إحسان عبد القدوس، وقدمت سينمائيًا في فيلم من أشهر كلاسيكيات السينما المصرية، جسد فيه دور إبراهيم حمدي بطل الرواية والفيلم، النجم المصري العالمي عمر الشريف، وأخرجه هنري بركات.
يومها سألني ابني سؤالًا صعبًا ومزلزًلا: “إبراهيم ده إرهابي.. صح ولا لأ يا بابا، ده قتل وخوف الناس في الشوارع.. إنتوا إزاي شايفينه بطل؟”، ساد بيننا صمت طويل، قبل أن أعلن مجبرًا أنه بالفعل إرهابي، وأن ارتكابه لجريمة الاغتيال السياسي بهدف مقاومة الاستعمار لا يمنحه أي شرف ولا يحقق له أي بطولة. حاولت قبل هذا الاعتراف الخطير، تبرير فكرة المقاومة بالعنف والدم من منطلق “فقه الزمان” الذي يلتمس للأجيال السابقة العذر على أخطائهم التي ارتكبوها في الماضي، لمحدودية رؤيتهم في حينه أو اندفاعهم وراء تيارات فكرية سيطرت على عقولهم، في سياق هوس الموضة التي تهيمن في مرحلة زمنية على جيل ما.
كلامي لم يكن مقنعًا للصغير الذي انقطعت صلته بالماضي بصورته النمطية التي ترسخت في جيلنا وأجيال سبقته والتي تمنح قداسة خاصة لبعض الشخصيات والحكايات دون إدراك أنهم ربما يكونوا مجرمين، وقد يصل الأمر إلى تأصيل قصصهم في تراثنا الشعبي، فنمنحهم بطولة لا يستحقوها.
هذا ما تؤكده القصة الحقيقية لبطل رواية “في بيتنا رجل”، حسين توفيق الذي شكل عام 1946 مجموعة تضمه مع ابن خالته إبراهيم كامل (أصبح فيما بعد وزير خارجية مصر)، ومحمد أنور السادات (رئيس الجمهورية الأسبق)، وآخرين اتهموا في قضية اغتيال وزير المالية المصري أمين عثمان، وقد اختبأ الهارب حسين توفيق في منزل إحسان عبد القدوس لمدة 10 أيام، قبل أن يفر متخفيًا في زيّ ضابط بوليس إلي سوريا، وذكر إحسان القصة في مقال له بعنوان “بينى وبين حسين توفيق”، فى مجلة “الاثنين والدنيا” عدد يوليو 1948.
وبعد أن فر حسين إلى سوريا بعث بخطاب إلي إحسان يخبره فيه، أنه في طريقه لمحاربة الصهيونية، حيث أنه انضم إلى حركة القوميين العرب، وهي الحركة نفسها التي بدأ منها وديع حداد نضاله الوطني، قبل أن يغادرها ويؤسس مع جورج حبش الجبهة الشعبية.
وإذا كان وديع قد تخصص في خطف الطائرات، فإن توفيق أشتهر وهو طالب ثانوي بحرق سيارات الإنجليز، قبل أن يتخصص في الاغتيال السياسي، وتنتهي رحلته مسجونًا في قضية الإخوان الشهيرة عام 1965 بتهمتي السعي لقلب نظام الحكم ومحاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، الذي قدمت في عهده قصة نضال حسين توفيق في رواية إحسان عبد القدوس ثم على المسرح عام 1959 والسينما عام 1961، قبل أن تقدم تليفزيونيًا في التسعينات فخلدته بطلًا أسطوريًا في مخيلة أجيال من المصريين.
لا شك أننا أمام محنة فكرية معقدة تستدعي مراجعة تاريخنا النضالي وتنقيته من قصص ربما تربك عقول أبنائنا الذين يعيشون عصرًا مختلفًا تحكمه أدبيات وأخلاقيات مغايرة، وهذا قد يستدعي تجديدًا للخطاب الثقافي والفكري، يتزامن مع ما يرجوه البعض من تجديد لخطابات مجتمعية أخرى باتت تستحق ذلك.
شاهد: أبرز الأحداث التي شغلت الوسط الثقافي خلال عام 2018