هذا ما جال بخاطري وأنا أجلس بإحدى عيادات وسط البلد القديمة أنتظر الطبيب لساعات ويكاد الملل يقتلني بل يقطعني إرباً، وهذا ما يحدث عندما تنسى أن تحضر معك كتاباً أو (موبايلك يقطع )، فينتابك الملل وتفكر في بعض الأمور التى لا جدوى منها وربما يستيقظ ذلك الفيلسوف الوجودي النائم بداخلك.. فأنت مع الملل لاحول لك ولا قوة.
المهم.. بدأ الأمر عندما جلست بجانبي إمرأة ثلاثينية ومعها ابنتها الصغيرة في الخامسة من العمر مثلاً، فما كان منى إلا أننى ابتسمت لهن من باب مجاملة العيادات المعهود ليس إلا!! فنظرت لابنتها قائلة: “سلمي على طنط ياله وقوليلها اسمك ايه”
نرشح لك: سعيد عبد الغني.. ودّع محبيه بالبدلة البيضاء!
فايتسمت..
فأردفت: “دي بنتي آيه بقى يا ستي، آخر العنقود، شقية ومجرمة ومدلعة اوى، لعبة بباها وأخواتها”.. وضحكت .
فرددت قائلة: “ربنا يحميها حبيبتي”.
فقالت: “أوعي تكوني فاكرة انها خجولة ومؤدبة كده!! دي مغلباني”.. وضحكت.
“بس بِسْم الله ما شاء الله عليها ذكية جدا وبيموتوا فيها في الحضانة، دي حافظة كمية أناشيد، وعارفة الحروف بالإنجليزي وكمان حافظة قرآن”
فابتسمت قائلة: “حبيبتي..”، وإذا بالمرأة تقول: “ياله يا آيه سمعي طنط الفاتحة!!”.
وبعد كم هائل من الرذالة والدلع والبواخة وتخبئة الوجه في حضن ماما.. قررت آية ان تنعم علّي بفاتحة الكتاب والسبع المثاني.. فابتسمت على مضض و قلت: “براڤو”.
ثم كانت المفاجأة التي انتظرتها الجماهير الغفيرة في العيادة والتى أسعدت الملايين من المرضى من المحيط للخليج… آيه تستطيع تسميع المعوذتين أيضا!!!
و بدأت المقرأة…
فسرحت مفكرة.. هل من المعقول ان يكون لدي هذه المرأة قناعة داخلية بل وحقيقة ( اني هموت م الفرح ) لأنها انجبت تلك الآية البديعة؟!!
ثم تذكرت نفسي وصديقاتي منذ عشر سنوات ويزيد، حيث كانت أعز صديقاتي تضع ابنتها على كرسي في إحدي المطاعم وبدأت في استعراض مذهل لنا جميعاً عن إمكانيات ابنتها غير العادية واللامسبوقة و”السوپر پاورز” التي لديها في تقليد أصوات الحيوانات.. فكانت تسألها بسعادة بالغة وفخر لا حدود له: “البطة بتقول ايه ؟” وترد البطة الصغيرة، ثم يزداد الإبداع ويصل العرض إلى أوجه وهى تختبرها امام العالم (الذي ابهرناه طويلاً كمصريين) : “هاااا والديك بيقول ايه؟”، فيشق صوت الصغيرة المدى قائلة: ” كو كو كوكووووو…”
فابتسمت وأنا أتذكر إلى أي مدى قد يصاب الأباء والأمهات بهذا النوع من “الهطل” وهذا الكم من السذاجة عندما يُخيل إليهم ان العالم كله قد أصابته أزمة قلبية حادة من فرط السعادة لأنهم أنجبوا (وينزل صوت حمادة هلال صادحاً.. و الله و دعملوها الرجالة).
كانت آيتنا البديعة قد انتهت تقريباً من جزء عٓم، وكان كل سكان العيادة قد انفجروا سعداء وعمت الفرحة والبهجة أرجاء منطقة عابدين وباب اللوق مروراً بميدان محمد نجيب وانتهاءً بعبد المنعم رياض!!
فتجلت المرأة بزهو الواقف بستوكهولم لتسلم نوبل قائلة: “طب و الله دي كمان حافظة خواتيم سورة البقرة”.
فتوقفت عن الابتسام السمج الذي يشعرها وكأنني اتمني المزيد.
لكن قدر الله ولطف بأمته المريضة المسكينة التى أرهقها الابتسام الزائف وأكلها الصداع بصوت الممرضة والذي سمعته أذني و كأنه كوكب الشرق تصدح بالأطلال قائلة: “مدام غادة.. دور حضرتك”.
و هكذا نجاني المولي عز وجل قبل ان تبدأ آل عمران…