معتز عبد الرحمن: لا تجادل ولا تناقش يا "برينجي"

من عيوب الإسراف في “الأدلجة” والتحزب أن العيوب والنقائص المنتشرة بقوة في المجتمع الواحد وربما في البشرية كلها تتفتت وتتخفى رغم وضوحها مما يصعّب مهمة التشخيص والعلاج، قد تنتشر صفة في مجتمع بشكل عام وفي كل فئاته ، ولكن لأن كل فصيل ينسبها للخصوم الفكريين ويركز على إظهارها فيهم لا ينتبه أنها متغلغلة فيه وفي أفراده ربما أكثر من غيره ، وإن تنبه لوجودها فيه سمى الأمر بغير اسمه فيستمر على ما يهاجمه في غيره بمسمى مختلف، فما يصفه في غيره أنه “خرفنة” يمارسه على أنه “التزام حزبي” ، وما يصفه في غيره على أنه “تقديس أشخاص وكهنوت” يمارسه على أنه “ثقة وتقدير للرموز”، وما ينتقده من التزام أقوال قديمة لا تصلح لزماننا – بزعمه الصحيح أحيانا والسطحي غالبا- يستبدله بالتزام مناهج لا تناسب معتقدنا أو واقعنا وإن بدت حديثة، وإن كان أخونا يصف رمزه بالحبر العلامة فالرفيق يصف رمزه بالمناضل المثقف الشريف وذاك يصف رمزه بالعبقري السابق بسنوات ضوئية ، وهكذا، والنتيجة في النهاية واحدة، نفس الصفة متفشية في المجتمع كله على سواء ويرى كل فرد وفصيل أنها موجودة في الجميع عدا نفسه..

الميل إلى التبعية العمياء لمخلوق آخر هي صفة بشرية عموماً تنتج أحيانا عن الكسل في مهمة البحث عن الحق وهي المهمة الصعبة التي تبدأ من البلوغ ولا تنتهي إلا بالموت، وتنتج في أحيان أخرى من المبالغة والانبهار الزائد بالمتبوع، وأحيان أخرى تنتج من وجود مصلحة ظاهرة في تلك التبعية مادية كانت أو معنوية، وتلك التبعية جاءت مذمومة دوما في القرآن والسنة، ورد ذكرها بصور متعددة، فمنها التبعية العمياء للسادة والكبراء والأمراء خوفا وطمعا، ومنها التبعية العمياء لرجال الدين والأحبار والرهبان والتي جاءت مذمومة إلى حد وصفها بأنها عبادة لهم، ومنها التبعية العمياء للآباء والأجداد أصابوا أم اخطأوا وهي في مواطن يصعب حصرها، ومنها التبعية العمياء والتقليد للعدو المنتصر كما جاء في الحديث ( لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: فمن ) ، رواه البخاري ومسلم، فتجد مثلا أن هذه الصورة الأكثر انتشاراً في زماننا، تقليد في المناهج الفكرية والسياسية المصطدمة مع الإسلام، وفي الأخلاقيات والسلوكيات، وفي الألفاظ والتعبيرات، بل وحتى في الملابس وقصة الشعر، شبرا بشبر وذراعا بذراع كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقليد في أمور شاذة وقبيحة لا تجد لها وصف أدق من (جحر الضب) ، لا يعرف لتبعيته سببا ولا لفعله حكمة سوى الانصياع والتقليد ثم يسخر من غيره قائلا (لا تجادل ولا تناقش يا أخ علي)، هو حفظها هكذا من الفيلم الشهير مرتبطة ب”الأخ”، ولكن لأنه “مان” أو “برينجي” أو “رفيق” أو “برو” .. إلخ يظن أنه ليس من أهلها ، في حين أنه من أشد المطبقين لها، ولسان حاله وهو يسارع وراء كل مستورد وغريب ، افعل ما يفعلون دون أن تجادل أو تناقش .. يا برينجي..

والإنسان الذي مهما تعلم يظل لا يعلم شيئا يذكر من بحر مجهولاته ومجهولات الكون الذي يعيش فيه ولا عن المآل الذي ينتظره بعد مفارقة ذاك السر لجسده قبل أن يتحول من هيئته البديعة إلى جيفة ثم تراب، يحتاج هذا الإنسان إلى شيء كثير من هذا الانصياع المطلق لمن يدله على ما يصلح دنياه ثم مآله وهو الأهم، ولذلك لا يمكن أن يكون هذا الانصياع مشروعاً أو معقولا إذا صرف إلى مخلوق آخر لا يملك من أمر نفسه شيئا وليس له زيادة علم أو قدرة عن أي مخلوق آخر، فجاء الإسلام ليصرف هذا الانصياع كله لله الخالق ويحرر البشر من أغلال الانصياع للمخلوقات وللشركاء (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)) سورة الأعراف ، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)) سورة الزمر.

فالأمر الإلهي في القرآن والسنة هو الوحيد الذي يمكن بل يجب أن يتبع دون جدال أو مناقشة ولا يشترط لتنفيذه معرفة الحكمة أو الرضا العقلي عن الحكم وهذا عين مفهوم الإيمان بالغيب الوارد كثيرا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)) سورة النساء ، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)) سورة الأحزاب.

ومن لم يوجه ويشبع هذا الاحتياج من الوحي بحث لا إراديا ولا شعوريا عن مصدر آخر ،إله مزعوم أو عرق أو جماعة أو حزب أو رمز أو فكر منحرف أو مبادئ حضارة قديمة أو حتى حضارة عدو ، وعاش له وبذل لأجله ووالى وعادى عليه، ولا عجب أن تجد الكثير من الغارقين في تلك التبعيات يرفضون ويسخرون من مفهوم الانصياع المطلق للقرآن والسنة ويصفونها بالتخلف والرجعية في ذات الوقت الذي يصرفون فيه انصياعهم وولاءهم لما دون ذلك ولمن يصيب ويخطيء ، يتكبرون عن التزام تشريع إلهي يحلّ ويحرم لا تحكمه أهواء البشر ولا يتغير مع الزمن ولا مع مصالح السادة أو الحزب الحاكم ثم يخضعون لآراء البشر فيما يباح ويجرّم ، الممنوع اليوم مسموح غدا والعكس وأنت وحظك (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)) سورة يونس ، فهذا هو اختيار الإنسان الذي خلقت له إرادة من أجل أن يحاسب عليه يوم القيامة ويتحمل مسئولية اختياراته كاملة دون أن ينفع تابع متبوعه أو ينفع متبوع تابعه، وليبحث المسكين حينها عن الأخ علي أو الرفيق أو الـ (مان) أو المأمور ويرى إن كان قادرا على إنقاذه.

اقرأ أيضًا:

 معتز عبد الرحمن: ناسا العربية.. وكالة من غير بواب

معتز عبد الرحمن: ماذا خسرنا بتشويه الدراما لكفار قريش؟!

.

تابعونا عبر تويتر من هنا

تابعونا عبر الفيس بوك من هنا