كحل وحبهان أيقونة مصرية لعمر طاهر
عبد الحي ناصر
يدخل عمر طاهر هذه المرة من الباب العالي إلى ساحة الأدب العربي يحمل بين يديه أوراق اعتماده كروائي، وأنا أعتقد بأن هذا الكاتب المرموق لا يؤمن بشيء في مشروعه الإبداعي سوى بالفكرة ولا يعنيه سوى الموضوع الذى سيطرحه؛ لا يهمه القالب أو اللون كل ما يهمه هو إيصال الفكرة وحسب فإن كانت الفكرة دفقة شعورية جادت بها القريحة والتهبت بها المشاعر كتبها قصيدة أو أغنية وشدت بها أصالة أو غيرها “ياللى أنت خليت السما والشمس بتنور وهلال بيتحول قمر سبحان من صور”. فهو شاعر.
وإن كانت الفكرة لها أبعاد ذهنية وأهداف ثقافية اجتماعية سياسية أعدها وقدمها كبرنامج للتلفزيون أو للإذاعة، فهو معد ومذيع ناجح له كاريزما وحضور تستريح له الأفئدة -كما نأمل أن يكون لبرنامجه وصفوا لـي الصبر عدة أجزاء- وإن كان الموضوع يحتاج إلى همزة وصل بينه وبين جمهوره الذي يخاطبه ككاتب سيناريو كما رأينا فيلم “طير أنت”، ومع ذلك كله فهو الفيلسوف الساخر الذى يجعلك في حيرة من أمره وحيرة في أمرك في نفس الوقت لتسأل نفسك كيف يفكر هذا الفنان؟! أو بمعنى آخر هي دماغه دي فيها ايه!!! حتى يفكر بهذه الطريقة وربما قد حباه ربه بمواهب أخرى لم نعرفها نحن حتى الآن.
فبعد كتابته المقال السردي بحرفية عالية يقدم لنا هذا العام “كحل وحبهان”.. إضافة جميلة إلى المكتبة العربية التي تشتاق لمثل هذا التغيير ولا ندعي أو نزعم أن عمر طاهر هو صاحب السبق في هذا المجال، فقد كتب من قبل عمنا محمود السعدني “وداعًا للطواجن” بيد أنها لم تكن رواية وربما كتب غيرهم ولكني لا أعرفهم وبذلك يكون التقصير من عندي. أما عمر طاهر هذه المرة فكان موفقًا فالرواية تحمل معالم وسمات قومية تدمغها الطبيعة المصرية بطابعها الساحر فتجعلها أيقونة معنوية خالصة وبينما هو في مطبخه الأدبي يعد وجبته الشهية فثمة أغنية عربية هادئة تدور في الخلفية نسمعها بوضوح مع رائحة الشواء المنبعثة من توليفة النصوص بنظرات الحنين وذكريات الأمس ويجمعنا فى مشاركات وجدانية للتفاصيل الصغيرة، التي استطاع أن يلتقطها ببراعة من ذاكرة الحياة ويعزمنا عليها.
وكانت وجبته الشهية مزيجًا من ذكريات المدرسة والشارع واللعب، وعلى الرغم من تعدد اللغات يلفت نظرنا إلى لغة يستطيع العالم كله أن يتعامل بها ألا وهي لغة البطن! والتفاهم بالطعام فـ للبهجة طعام وللحزن طعام وللتعارف طعام وللتنافر طعام كل منهم له مكوناته الخاصة وله توابله المبهجة.
وتستغرق الرواية خمسة أيام إذا اعتبرنا أن بيت العائلة كان مقدمة للتعارف، ولن نستطيع أن نتحدث عن الحبكة أو اللغة لأن الكاتب مخضرم يتعالى على مثل هذه السقطات وتشهد له بذلك أعماله السابقة والرواية التي نحن بصددها تختلف فيها الأحداث بين ماض قريب وحاضر يعايشه البطل “سسكو” وأمه “ابتسام” بمطبخها العامر بما لذ وطاب من صنوف لهجات الطبخ التي تتعامل بها معهم والجدة التي هي عامل الزمن والأب والخال أركان العائلة وسحر حبيبته في الصغر، التي يميل إليها بإنسانيته دون النظر إلى الدين أو العقيدة.
وهكذا تكون دائمًا الوحدة الوطنية بين المصريين والحالة الإنسانية التي يتعايشون بها حتى أنه لم يعرف أنها مسيحية إلا بعد أن أخذ عقابه من أبيه على مجمل أفعال لم يخطئها كلها، ولكن اختلط الأمر على أبيه في فترة ما تلك الفترة التي كان يتودد إليه فيها حتى يسمح له بحضور حفلة “منير” التي من الممكن أن تضيف له بعض المشاعر الجديدة أو تغير مذاق الحياة عن المعتاد.
وحبيبته في الكبر “صافية” التي يتزوجها عن قناعة وقمة في التفاهم المعنوي ولندعه يحكي هو عنها “لا أخجل أمامها من أن أُسلَّك أسناني بأي شيء أو يقول “تجشأت” مرة أمامها فما كان منها إلا أنها طبطبت على معنوياتي وأزالت عنى الحرج بأن “تجشأت” هي أيضًا بصوت استعراضي فضحكنا”. وهذه هي لمسات التوافق الإنساني الخلاق.
ونستطيع أن نقول بأن هذه العائلة متسامحة ولها نظرة خاصة في التربية فكل منهما له أسلوبه في التعامل مع الطفل فالجدة تمارس معه تمارين الصباح وتمرر له في المساء بعض النقود ثم تبيعه الأفكار المحفزة دون مقابل، والخال يصاحبه والأب يقسو أحيانًا ويحنو طوال الوقت، والأم “تروض شروده وهياجه بلمسات بسيطة منها السحلب المغلي الذي تغرق فيه المكسرات”.
بعد آخر في الرواية يجعلك تشعر بأنك لا تقرأ مجرد كلامًا مكتوبًا بل صورًا حية لها لمحات براقة من زمنًا ليس بالبعيد عندما كان التليفون الأرضي لمن يملك حق توصيله عليه أن ينتظر الدور ويستغرق تركيبه في البيوت عدة شهور، وليس الكل قادرا على تركيبة مما جعل شهامة المصريين تسمح بتليفونًا واحدًا يكفي عمارة بأكملها وترى أيضًا لمحات بسيطة الشكل ولكنها عميقة المغزى “البائعة التي تقلب بضاعتها ثم تختار من أبعد نقطة ربطة ملوخية وتنفضها ثم تتأملها قبل أن تُقدَّمها لك هي واحدة مشغولة بسعادتك”.
ولا يحرمك من سخريته المعتادة بعد وصف دقيق مشوق مجوع لطاجن مسقعة “إذا نظر إليها سرَّته” أي المسقعة وعن الأعرابي الذي حاول أحدهم أن يقنعه بحلاوة طعم الباذنجان إذا حُشي باللحم فيقول “والله ولو حُشي بالتقوى”، وثمة أحاسيس في السلوك الإنساني توتره نذكر منها “يوترني الشخص الذي لا يستقر كفه في كفك عند السلام ولكن يستقر عند ساعدك”.
وستعرف علاقة القرفة بنَّمس الوجه وأن الكحل تابِل النظرة والعلاقة بين الحبهان وثلاثينياتك وستعرف أن الطبخ سرق من كل فن شيئًا وستحترف التدقيق في الروائح فإن لكل شخص رائحة تعادل شخصه ومن الممكن أن ترمز له في أم كلثوم مثلًا رائحتها قريبة من رائحة الخبز البلدي الخارج من الفرن ولا تخلو الرواية من حكمة مفادها أنه “يقع الشخص في غرام المشقة إذا عرف الطريق”، وضحكة مديحة كامل الأثرة التي تحتل الغلاف كيف كان سيكون شكل الغلاف إن لم تحتله؟!
نرشح لك: 6 أسباب تجذبك لقراءة “كحل وحبهان” لـ عمر طاهر
شاهد : الإعلاميون والمشاهير خارج البلاتوهات في برنامج مش عادي