لا يجب أن تنظر إلى ما تفجر من جدل حول حديث للدكتور خالد منتصر تقاطعَ مع معتقدات ذات صبغة دينية، باعتباره فقط مجرد مساحة للجدل بين العلمانيين والأصوليين فى هذا المجتمع، فتختار أى الفريقين لتصطف معه، حتى لو كنت لست متفقا مع هذا الفريق كلية، ولا هذا الفريق، المسألة فى نظرى، لا تصب عند هذا الجدل فحسب، لكنها تضرب مسمارًا جديدًا ومفصليًّا فى نعش الصحافة والإعلام فى مصر.
بالقطع يكفى أن تضع عناوين توحى بإنكار منتصر فريضة الصيام أو بتسفيهه من قداسة بئر زمزم عند المسلمين، لتضمن الحد الأقصى من الإثارة والتداول وصناعة الترافيك، كما تعودت أن ترى أغلب الإعلام والمواقع الإلكترونية، حتى تلك التابعة لصحف ولديها سياسات تحريرية، تزعم أنها ترتكز على «المهنية».
قد تستوعب حقيقة الخطر إذا ما ربطت بين الدكتور خالد منتصر ونشاطه، وبين الأداء الإعلامى، فالرجل المعروف كطبيب شهير، معروف أكثر ككاتب وإعلامى مهتم بقضايا الفكر الدينى من جانب، والصحة بحكم التخصص من جانب آخر، ويكتب بانتظام فى صحف معتبرة وله برامج تليفزيونية ذات مشاهدة وفى محطات فضائية كبرى.
إذن فهو بحكم الممارسة الصحفية والإعلامية «زميل»، ولما كانت قواعد هذه الممارسة الصحفية تتطلب أن تكون الأطراف ذات الصلة بالخبر حاضرة فى القصة، إلا أن أحدًا من هذه الصحف والمواقع «المهنية» لم يحاول الاتصال بالدكتور خالد منتصر، ليسمع منه تفسيرًا لما تم نقله عن لسانه، وهو الأسلوب الأكثر تحوطا، خصوصا أن 99.9% من الصحفيين الذين نشروا مقتطفات من حديثه فى ندوة، لم يحضروا هذه الندوة، وإنما نقلوا عن واحد فقط كتب ما فهمه من الندوة بسوء قصد أو متعمدا عبر مواقع التواصل الاجتماعى، ومنها إلى مواقع ذات صبغة إخوانية.
كان طبيعيًّا إن كنت لم تحضر الندوة أن تسأل بطلها: هناك مَن يقول إنك قلت كذا وكذا، خصوصا أن الرجل «زميل» كما قلت لك، والوصول إليه ليس صعبًا ولا مستحيلًا، ورقم تليفونه متاح جدا، لكن لأن هذا الاتصال والتدقيق يحتاج إلى وقت، والقصة بعناوينها المثيرة التى تظهر منتصر يطعن فى الصيام كفريضة وفى ماء زمزم كقيمة روحية، بضاعة رائجة، لا بد أن ننال بعض مكاسبها أولًا، ثم بعد أن نأخذ منها الغرض بزيارات هائلة تدعم «الترافيك»، يمكن أن ننشر أى تفسير أو توضيح أو جوانب ناقصة فى القصة.
اختزل شخص ما ساعتين من الحديث فى خبر مقتضب، واقتطع من الحوار جملًا بعينها، وكان الرجل يقصد أنه من غير الممكن تفسير كل طقس أو سلوك دينى أو التزام روحى، بتفسيرات علمية وطبية، فالصيام ليس مفيدا للصحة بإطلاقه، كما يقول المشايخ، بدليل أن هناك رخصًا شرعية فى القرآن تُمنح للمرضى بعدم الصوم، ونحن نصوم لأن الصوم فريضة نتعبد بها ونتقرب إلى الله، وليس لأنه مفيد للصحة، وماء زمزم لا يشفى كل الأمراض، وإلا لكان أفضل من حرق مليارات الدولارات فى استثمارات الدواء، ولكان سكان المناطق المحيطة ببئر زمزم الذين يستخدمون هذا الماء كثيرًا أصحاء دائما بلا مرض، ونحن لا نأكل الخنزير لأنه يتسبب فى أمراض، وإنما لا نأكله لأن الله أمرنا بذلك، ونحن نطيع أوامر ربنا ونلتزم بعقيدتنا.
التشبث بتفسير الأمور الدينية تفسيرات علمية يفتح الباب للطعن فى الدين، فالملايين فى العالم يأكلون لحم الخنزير ولا يمرضون كلهم بسبب مباشر منه، والأطباء ينهون مرضى الكلى عن تناول ماء زمزم.
قداسة ماء زمزم الذى تفجر أسفل قدم النبى إسماعيل وأمه السيدة هاجر، مثل قداسة جبل عرفات والحجر الأسعد والكعبة ذاتها، إنها جميعا جزء من عقيدة التوحيد الممتدة حتى الخليل إبراهيم عليه السلام، وطقوسنا نفعلها تقربا إلى الله، وليس لأى أسباب طبية.
القضية أبعد من الجدل الفكرى والدينى والصحى كما قلت لك، وتتعرض لكفاءة الصحافة والصحفيين، سواء فى التغطيات المباشرة أو فى إدارات المحتوى، فإذا كانت هذه الوسائل، عاجزة أو متكاسلة، أو غير راغبة فى أن تستوثق خبرًا من «زميل» متاح، فماذا تفعل بسمعة الآخرين خارج الدائرة الإعلامية من متاحى التواصل وغير المتاحين؟
هذا زمن الفزع من الإعلام؟ لا أحد آمن على سمعته وسيرته، وعقيدته، بعد أن صارت الإثارة وعدم أداء الواجب يجلبان الرواتب.
نقلًا عن موقع “التحرير”