هل حكيت لكم يوماً عن مقهى البستان ؟؟
هو المكان الذي اعتدت الجلوس فيه في السنوات الأخيرة، كل من يعرفني يعلم يقيناً أنه سيجدني هناك دوماً وبلا انقطاع، أعمل وأقرأ وأكتب وأنا جالس على إحدى طاولاته المريحة، التي تستقبل الجميع، ولكن طبقاً لقانون صارم وضعه صاحب المكان السيد/ محمود، والذي يتعامل مع موظفيه بالكثير من الحزم لكي يحافظ على جودة الخدمة المقدمة طوال الوقت.
دوماً ما تراودني فكرة الكتابة عن “بستان”، وعن أهمية تطبيق ما يفعله هذا الرجل في مجاله على كافة مجالات العمل في مصر، واسرح بخيالي في مقارنات لا تنتهي بين “بستان” وبين القنوات الفضائية، وحينها أبتسم بحسرة لأنني أعلم أن التطبيق ليس مستحيلاً ، لكن لا يوجد السيد/ محمود في قنواتنا الفضائية للأسف.. وفي هذا المقال أدعوك لأن تربط معي ما ستقرأه هنا وبين ما تقدمه لك القنوات الفضائية من سلعة، لتعلم أن بين الرجل وبين أباطرة الإعلام المصري سنوات وسنوات من التفكير والجهد.
“بستان” لا يغلق أبوابه أبداً – باستثناء أول أيام رمضان- يعمل 24 ساعة في اليوم، مثله في ذلك مثل القنوات الفضائية، كما يعمل به عدد غير قليل من الموظفين في ثلاثة شيفتات، لكل منهم دور محدد وواضح لا يخرج عنه – ولا حتى نادراً- فعامل الشيشة يظل عامل شيشة، وعامل الصالة يبقى على حاله، وهوما خلق تناغماً حقيقياً بين الزبائن وبين الموظفين، فأنا حالاً لحظة كتابتي لتلك السطور لن أنادي على أي شخص سوى (إسلام) موظف الصالة النشيط الذي يتواجد في هذا الشيفت دوماً، لن أجتاج إلى النظر إليه، لن أحتاج إلى البحث عنه، فقط أنادي اسمه .. فيأتيني.
هذا الجدول الصارم هو ما تفتقده بعض القنوات الفضائية، فنحن (العاملين بالمهنة) نعلم أنه يتم التبديل بلا انقطاع بين الموظفين وبعضهم في الشيفتات والمهام، فتخرج الشاشة مرتبكة في بعض اللحظات، نتيجة لجهل البعض بطبيعة الشيفت/ البرنامج ولهذا فإن من الطبيعي أن يرتبك الموظف أيا كانت درجته ولو قليلاً… فاثبتوا اثابكم الله.
لافتة بنفس تلك الكلمات معلقة على كافة جدران المكان من الداخل والخارج، تدعو الزبائن للكف عن الإزعاج، لا ترفعوا أصواتكم، لا تتعاركوا، فقط اجلسوا بهدوء.. ولو فكرت قليلاً لوجدت أن (نجوم الإعلام المصري) من مقدمي البرامج الرئيسية لو التزموا بقاعدة الهدوء الموجودة بالبستان كأساس صارم، لما اضطر المشاهد للإصغاء يومياً لحالة الهتاف، والـ (شرشحة الإعلامية) التي يمارسها بعضهم.
بستان درس السوق جيداً وعرف أن للناس فيما يعشقون مذاهب، فقرر – مثله في ذلك مثل قنوات المنوعات- أن يرضي كافة الأذواق قدر المستطاع، فأيا كان نوع المشروب الذي تفضله ستجده في “بستان”
فالشاي: (فتلة وخرز وإيرل جراي و بالفواكه)
والقهوة: (غامق و فاتح و وسط) (محوج وسادة) في (كوب أو في فنجان)
يتم سؤالك في البداية عن الكيفية التي تحب بها مشروبك، فيأتيك كما تحبه تماماً، وعلى هذا فأنا أتصور أن القائمين على الإعلام لو قاموا (فعلياً) بدراسة للسوق كما فعل صاحب “بستان” لعلموا أن معظم بضاعتهم فاسدة، لا تصلح لتقديمها من الأساس، ولو نفذوا نتيجة دراستهم تلك لرحموا مشاهديهم من الكثير من الوجوه الإعلامية، والبرامج المكررة وعديمة الطعم واللون والمحتوى، ولقدموا إليهم وجوهاً أكثر نضارة كما يفضلونها، وكما يرغبون.
“بستان” يمتلك شاشتي تلفزيون معلقتين، ومع هذا لا يذيع على زبائنه إلا نوعاً محدداً من المواد الترفيهية/ الإعلامية وهو الأفلام الأمريكية، فلا يذيع مثلاً مباريات كرة القدم تحت اي مسمى – وإن كان نهائي كاس العالم- لا يذيع الأخبار وبرامج التوك شو … هو يعرف ما يريده، يعرف هويته، وطبيعة زبائنه .. هل هناك داعٍ لأن أُذكرك بأن قنواتنا الفضائية لا يحمل معظمها هوية واضحة – باستثناء من رحم ربي من القنوات الإخبارية- وأن معظمها يقدم إلينا وجبة اعلامية (سمك – لبن – تمر هندي) فلا نستطيع معها تحديد الفارق بين محطة وأخرى رغم مرور شهور وسنوات لها في السوق!!
ملحوظة جانبية: قام السيد/ محمود ومنذ قديم الأزل، بشراء عدد ضخم من سماعات الرأس (بلوتوث) مربوطة بالتلفاز، لكي لا يزعج من يريدون سماع الأفلام بقية الزبائن… نعم يا عزيزي، تطلب سماعة خاصة لتستطيع سماع المادة التلفزيونية (الوحيدة) .. فالهدوء كما عرفنا سمة البستان.
وكذلك، من باب الحفاظ على الرونق، فتسليم وتسلم الوردية/ الشيفت، يتم بمنتهى السلاسة، فالموظف الذي يبدأ شيفته يأتي في موعد محدد ليرتدي ملابس العمل (قميص أبيض وبنطلون أسود وبابيون أسود) ، ثم يقوم بتنظيف الأرضيات ومسحها، تنظيف الحمامات، ثم يستلم من زميله فواتير الزبائن.
بالقياس على الإعلام، فتخيل معي لو أن الفاصل بين البرامج أو الفترات وبعضها مدته معلومة وواضحة، لو أن جدول البرامج يتم تنفيذه بصرامة بلا ثانية أقل أو أكثر، فلا يشعر المشاهد/ الزبون بأي تأخير أو تقصير .. لماذا سيتركك هذا الزبون؟ .. لماذا سيتجول بين المحطات ليبحث عن محطة تأتيه بـ “نشرة الأخبار” على رأس الساعة فعلاً، تأتيه ببرنامج الساعة الثانية ظهراً مثلاً في موعده بدقة وبلا تأخير؟؟ … هل هناك محطة تلفزيونية مصرية تفعل ذلك باستمرار؟؟ .. أجزم أن الإجابة لا.
حفاظاً على الرونق كذلك، فالبستان يعتذر لمن هم دون سن الخامسة والعشرين .. لا يدخلونه، وإن شك العاملين في سنك، سيسألونك على البطاقة الشخصية، وإن كنت أقل من السن المطلوب، سيطلبون منك بأدب وحزم أن تغادر المكان… البستان يحدد هدفه، و زبونه و يفرض نظامه الخاص، وعلى الجميع احترام ذلك.. هذا ما يجب أن يكون عليه الاعلام في اعتقادي، وضوح الرؤية وتحديد الجمهور المستهدف… ثم إصابة الهدف… وهو أمر يحتاج للجهد.. للكثير منه في الواقع.
الكل في “بستان” يحترم الكل، فهذه طاولة الأستاذ “فلان” فلا يجلس عليها غيره، والأستاذ “فلان” يحب الزبادي مضروباً مرة واحدة فقط في الخلاط، والأستاذة “فلانة” تحب الشيشة بنكهة الخوخ .. كل العاملين يحترمون رغباتك وينفذونها دون أن تطلب.
ولا أعتقد أن من ضمن رغبات زبون المحطات التلفزيونية/ المشاهد أن يرى المذيع يغير من انتماءاته وآراؤه طوال الوقت، أو يتحدث بعنجهية أو يسب شخص ما أو يجلس بطريقة غير ملائمة أو أو أو … الإعلام في النهاية يقدم سلعة (فكرية) مهما كانت بساطتها، فاحترموا عقل زبونكم .. يحترمكم، بهذه البساطة.
ملحوظة أخرى: من باب الاحترام فالعاملين بالبستان، يتقاضون أجوراً محترمة للغاية ، و يتسلمونها في موعدها بلا تأخير (سامعني حضرتك؟؟)
الكلام عن “مقهى بستان” يطول و يطول، ومقارنته بكافة أوجه حياتنا العملية واردة ومنطقية، وأنا أفَضله على غيره من الأماكن لكل ما سبق من مقومات وغيرها، مقومات أساسها الانضباط وجودة السلعة المقدمة و معرفة زبونك، وعن نفسي فأنا لم أعمل في أي مكان يعلم يقيناً هويته، ويعرف تحديداً ماذا يريد أن يقدم، وكيف باستثناء شركة إنتاج كانت صغيرة وتكبر يوماً بعد يوم، وأجزم أن تمددها وتوسعها أتى كنتيجة طبيعية للتخطيط والتنظيم والفهم، ولهذا فندائي إلى القائمين على المحطات والبرامج الفضائية بمصر، كن للمشاهد “بستاناً” يكن لك زبوناً دائماً .. صدقوني
لكم المودة بلا حدود.