مؤخرًا وبعد مشاهدة فيديو السيدة التي كانت تدفع ابنها من النافذة للشرفة (فيديو طفل البلكونه) كي يدخل ليحضر المفتاح من داخل الشقة، وثارت ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي، وامتلأ التايم لاين بطلبات تصفية لتلك المرأة التي لا تعرف معنى الأمومة، وأخرى تطالب بمحاكمتها، وتطبيق أقصى العقوبة عليها، لتكون عبرة لكل أم قد تسول لها نفسها فعل هذا أو ما يشابهه..وظهر فريق من ذوي القلوب الرحيمة يتساءل عن الدافع وراء ما فعلت، أو أن ينظر المجتمع إلى الظروف القاهرة المضنية كالفقر والعوز والجهل وقلة الحيلة بل وقلة النجارين أيضًا، مدافعين عنها ومطالبين المجتمع أن يضع نفسه مكانها أولًا. غادة الخطيب
و بعد ظهورها في بعض البرامج، كان أهل التواصل الاجتماعي ما بين متعاطف و مكذب!!، حقيقة.. ليست تلك السيدة بالنسبة لي هي لُب الموضوع (أصل إحنا اتعودنا وياما دقت ع الراس طبول يا جماعة)، فالأمر أصبح على مواقع التواصل حربًا ضروسًا طوال الوقت (ليل ونهار ونهار وليل كلنا مولّعون في بعض)، ويرجع ذلك في رأيي لأننا ولله الحمد شعب مُصدر للأحكام أو (جدجمينتال “judgmental “) بطبعهِ ( على رأي الغرب الكافر)
الكل أصبح قاضيًا وجلادًا، وزاد ذلك بعد الثورة بشكل ملحوظ، فنحن هاهنا فلول و ثوار، أهلي وزمالك، محبون للصيف ومحبون للشتاء، عقرب وجوزاء.. إلخ.
ليس في الأمر شيء إذا كنت تشجع، تحب أو تؤيد أي شيء في العالم، لكن صعوبة الموقف أننا (ولا أستثني أحدًا على رأي أحمد زكي) نحكم على الآخرين وبمنتهى القسوة ولا أحد يرى نفسه ( تقريبًا كده محدش عنده مرايه في بيتهم).
فهذا جبان عميل الأمريكان، هذا كاتب موجه، هذا صحفي فاشل، هذا من النشطاء، هذا من الخاملين (برده ما يضرش)، هذا سلفي متشدد، هذا وهابي متسلطن هذا مسيحي بس طيب، هذا كلب للسلطة، هذا وطني… إلخ.
وصل بنا الحال أننا أصبحنا نستبق كلمة القضاء ونصدر أحكامنا قبل القضاة، أو قبل حكم المباراة في المباريات!!.
المصيبة بقى يا خونا.. أنني كنت أعتقد في قرارة نفسي أني لست من هؤلاء “الجدجمينتال (الوحشيين)” وأني شخصية محايدة ولا أصدر أحكامًا على أحد، وأن كلُ حر في معتقداته… حتى اكتشفت ذاتي.
والقصة يا سيادنا بدأت عندما قرر جيراني شراء كلب حراسة جديد لحديقتهم بالدور الأرضي، أسفل منزلي بالضبط، وبدأ ذاك الكلب الغلبان في النباح طوال الوقت ، وأنا لا أعرف السبب، فتوجهت بسلطاتي ولجنة تقصي الحقائق للبلكونة، فوجدت الآتي:
كلب صغير السن كبير الحجم، شيك أنيق، له صوت عالِ (تقول مركب امبليفير في زوره)، وكانت الصدمة بالنسبة لي أنه مربوط في الحائط بحبلٍ قصير، ويوضع بجانبه كل يوم صحنين: صحن للمياه والآخر به بعض الماء والخبز المبلل!، إذًا.. فالكلب يلطم خديه من الجوع والحبس الانفرادي.
فبدأت قصة حبنا، فأصبحت أنا مغارة على بابا بالنسبة له، أضع له ما لذ وطاب يوميًا من الطعام والطعام المجفف وكل ما يتمناه أي كلب في مصر بل في العالم.
و توهجت قصة الحب، إلي أن جاء اليوم الذي خرجت فيه لإطعامه فقابلني رجل و بادرني قائلًا: هو حضرتك اللي بتحطيله الأكل؟؟ ربنا يكرمك، أنا كل ما آجي عنده ألاقيه بياكل أو عنده أكل كتير، ربنا يجازيك كل خير.
فرددت بمنتهى الرقة والعذوبة: أكيد طبعًا بحطله أكل!، هم أصحابه دوول فاكرينه ايه؟؟ بطة؟؟ بيحطوا له عيش مبلول؟؟، وعبر صوتي الآفاق: الناااااااااس دي مش هتورد على جنة، الناس دي هتروح جهنم بسببه!! معندهمش أي شعور بالمسئولية!!.
فأشار إلي نفسه وهو يضحك: أنا يا فندم همَ.. أنا اللي مش هورد على جنة وهدخل النار، أنا الشخص غير المسئول، فصعقت!! وطبعًا انهلت عليه بالاعتذارات والأسف (بس بعد إيه؟؟!!)، وطبعًا اكتشفت أنه يطعمه كل يوم شوربة ولحمة مع الخبز وأنه يأخذه يوميًا للتنزه، ونحن نيام!.
دخلت بيتي وأنا أضرب رأسي بجميع الحوائط والأعمدة، وتأكدت أنني مثل باقي الناس وأكثر، أعطيت لنفسي حق الحكم على الجيران حتى في دخول الجنة والنار!!، نعم يا سادة، كلنا في الهم شرقٌ، كلنا مُصدري أحكام وكلنا لا يرى إلا نفسه، ولا يعلم عن الحرب التي يخوضها الآخرون شيئًا، لا أعلم إن كان هذا تأثير السوشيال ميديا، أم أنها كانت فقط العامل الذي أظهر تلك الخصلة البشعة فينا؟.
فليست المشكلة بسيدة الفيديو المذكور أعلاه، ولا الطفل الساكن في العنوان إياه، ولا مليون فيديو ولا مليون شخص من الكُتاب والفنانين والإعلاميين، ولا حتى الجيران.. المشكلة في قلب كلٌ منا، المجتمع كله مُصدر أحكام مع مرتبة الشرف الأولى.
اقترح من موقعي هذا أن نستفيد من هذه الخاصية الفريدة.. يعني مثلًا ممكن نفتح مراكز لتقوية هذه الخاصية، ونزرعها وننميها في الأجيال الناشئة، أو نعمل في كل حي من الأحياء مراكز تدريب للكبار حتى يكونوا قضاة محترفين.
والاقتراح الأمثل أننا نجيب كل مليون مننا على حده، و يُصدر أحكام بسرعة فائقة على جهاز معين، فتزيد سرعة الأنترنت، أو حتى نولد كهرباء.. وهكذا ستكون مصر، وكل الدول العربية منورة جدًا بأهلها.
نرشح لك: محمود ربيعي يكتب: كيف تصبح “ناريتور” للكتب الصوتية؟