هايدي جبران عن الأمومة
لم تكن أضغاث أحلام بل كوابيس حقيقية تطاردني كل يوم، واقع جديد فُرض عليّ فرضاً، أصبح واجباً علي أن أنعزل عن عالمى الخارجي، عن شغفي، عن جنوني ونزقي، عن هواياتي في التسكع في شوارع القاهرة بلا سبب ولا هدى.
أرتاد شارع المعز، في كل مرة أردد لنفسي لن أشتري مشغولات يدوية من منطقة الخيامية المتشابكة المترابطة كلوحات صانعيها، أجدني وقد أنتهت نقودي وامتلأت سيارتي، أذهب لاستراحة قصيرة لأحد مقاهي طلعت حرب حيث كنت أعمل بإحدى الدوريات الأسبوعية.
كنت انتظر أيام الراحة من عملي وشهر رمضان لأستقل سيارتي قاطعة ما يقرب من ٩٠٠ كيلو متجهة إلي سيوة سعيًا للصمت والعزلة. لم تعد لدى رفاهية قرار الوحدة، من الأن فصاعداً يجب أن أكون أما وحسب، لا شئ آخر.
مهما حاولت أن أشرح هناك أمور لن يفهمها مجتمع يعتبر الأمومة هي الإنجاز الأعظم والمتناهي الذي تحلم به المرأة وما خلقت له أيضاً.
شعور لا متناهي بالتقصير والذنب حين أنظر لكل تجارب الأمومة حولي سواء في دائرتي الصغيرة، أو حتى بالتعريف الكلاسيكي للأمومة.
دوما أجدني مقصرة في كل مرة يبكي فيها طفلي، أجلد ذاتي ، فهو أكيد يبكي لسبب ما أنا مصدره.
تتعدد الأسباب أمامى، ربما لا تشبعه الرضاعة الطبيعية – وكان أمر أصر عليه بشده – ربما تنتابه نوبة مغص وأنا لا أفهم، يبكي باستمرار وبلا توقف أكيد هناك سبب ، تأتيني عبارة “العيال كلها كده ” لتزيد من إحساسي بالذنب.
قد تكون حواء هي المرأة الوحيدة التي مرت بخبرة الأمومة بدون أي ذاكرة شخصية أو جماعية عن كونها بنتاً لأم، بدون مرجعية تستضئ بها.
كيف ولدت حواء مولودها الأول إذن؟ كيف تصرفت مع الغثيان خلال الشهور الأولى؟ وهل أحبت مولودها حين خرج منها؟ ومن الذي قطع الحبل السري بينه وبينها وبأية آلة ؟ هل أرادت حواء أن تكون أمّاً أم لا؟ “كيف تلتئم عن الأمومة وأشباحها إيمان مرسال ٢٠١٧”.
حاولت كثيرا إقناع نفسي بأنها مرحلة مؤقتة قد تكون صعبة كمثيلاتها في حياتي -وهى كثيرات- وأنني أبالغ بعض الشئ وبعدها سأذكر هذه الفترة ضاحكة ولكن هناك أمور صعُب علي تجاوزها.
أنا لم أكفُر بالنعمة التي منحتني إياها السماء، وأعرف جيدا قصص لنساء وأزواج قاموا بالمستحيل لأجل لحظة واحدة مما أنا فيه، وكم يجب أن أكون ممتنة وشاكرة لما أنا عليه، لا أملك حرية البوح بخليط المشاعر المتصارعة داخلي، ولو حاولت غضبا عندما يفيض الكيل أصبح “بطرانة” غير شاكرة.
كل ما أعرفه الأن هو الفشل الذي يلازمني كأم.
” ليس هناك مللٌ أكثر من قضاء امرأة شابة وقتها كله مع طفل صغير… أتساءل كيف قمت بذلك؟ أقسم أن الأمهات الصغيرات مُسلحات بعُصارة أو هرمون يوقفهن للقيام بذلك وتحمّله” “دوريس ليسينغ”.
كنت قد تعلمت خلال حملي أن جسد الحامل ليس ملكها، هو مشاع لكل نصيحة وفيما يبدو المرضّع أيضاً، تأتيني نصائحهم الكريهة بضرورة تناول بعض مدرات اللبن المتعارف عليها – حلبة ومغات وحلاوة طحينية وماشابه – كلها وصفات لتحويلي لدبة تسير على قدمين.
رفضتها جميعا كجزء من رفضي لواقعي الجديد، التزمت بتناول الكثير والكثير من المياة، فقدت وزني الذي أكتسبته طوال شهور الحمل خلال شهرين فقط من الرضاعة الطبيعية ،عدت لوزن أقل مما بدأت حملي .
مرت ثلاث شهور صعبة ومريرة بعلاقتي بملاكي الذهبي، متوترة وعاصفة فهو لا ينام ولا حتى بشكل متقطع كما تقول الكتب، ما يلبث يغفو حتي يستيقظ صارخا، أصبح كل شئ بالمنزل على وضع صامت أملا ورجاء أن ينام الصغير.
سكن صوت هاتفي كما سكن صوت فيروز في غرفتي، لم أعد أفرق بين الصباح والمساء.
” وفي سعي لأن أصير أماً، ماهو الجزء من الأمومة الذي يُعتبر فيضا من الداخل؟ وما هي الأجزاء المفروضة من الخارج؟ أهي الصدفة المحضة هي التي جعلتني أبدأ التفكير في الأمومة عندما بلغتُ منتصف الثلاثين؟ أهي ساعتي البيولوجية هي التي بدأت ترنٌ وتُنذرني ؟ أم أن ما بدأ بالإسراع والانفلات مني هو التوقيت الاجتماعي ،التوقيت الذي يجُبرنا نحن النساء على مقارنة بعضننا ببعض وقياس حيواتنا وفقاً لذلك ؟” حليب أسود إليف شفاق ٢٠١٦”.
أصبح نومي شحيحاً عزيزا لم أعد أنام بشكل مستمر- وهذا غير عاداتي إطلاقا فسريعا ما استسلم لجزيرة القطن- ازددت شحوباً، لا أستطع النوم حتى وإن غفا طفلي قليلاً، لدي الكثير من المهام التي أقوم بها سريعا قبل أن أستجيب لصراخه ،الذي لم تغيره شهوره الأولى الثلاثة وكأنه يرفض واقعه مثلي .
طفلي جوزائي لا يبقي على حال كثيرا، أقوم بكافة الأعمال حاملة إياه على كتفي ،صرنا تؤام ملتصق، طفل جوزائي لأم من سكان برج الميزان، عقل الرجل الذي تحمله داخلها يكفيها عما حولها .
يسكن رأسي الكثير من المهام والخطط طويلة الأجل والقصيرة ،كلها متعلقة بالتفاصيل اليومية لطفلي، مرت شهور لم أخطو خارج منزلي، لم أرغب في الاحتكاك بالعالم الخارجي، أنا التي لم أكن أمكث بمكان أكثر من ساعة- حسب تعبير أمي هايدي دايما طايرة- كان خروجي من المنزل للضرورات يسبقه استعداد حرب لتجهيز شنطة صغيري ووزجاجات اللبن والحفاضاات وما شبه.
كنت أحلم أن أكون أماً وزوجة متألقة كعهدي بنفسي ، لكن ضبطتنى وأنا في تيه ونفق مظلم من الكآبة ، فارقتني روحي المرحة ،صرت نموذج متحرك لدارسي الانفعالات العصبية، أنظر لوجه يشبه وجهي في المرآة، هذه قطعاً ليست أنا، أجد هالات سوداء تحيط بعينّي، بشرتي دهنية، ملابسي رثة، ألوانها غير متناسقة، أكثر ما لفت نظري شعري الذي أحكمت قبضته بشدة خلف رأسي، ألمح بطرف عيني صورة لي على قطعة شيكولاتة زفافي، أحتفظ ببعض منها لم يكن أكثر من عام مضى، شعري حر طليق تنساب خصلاته لتصدح موسيقى مزعجة لرواد الكلاسيكيات… أشيح عنها بنظري سريعا مجبية لصوت كَريِمّ.
نرشح لك: إيمان سراج الدين تكتب.. The Wife امرأة في الظل
شاهد: يوم مش عادي في ضيافة الإعلامية إنجي علي