يعرف كل العاملين في مهنة المراسل التليفزيوني أنهم معرضون للخطر دائماً، في أيام العمل الاعتيادية أيضاً لايعرف أحد من أين قد يأتي الخطر، ربما من مواطن ناقم عى القناة التي تعمل فيها، أو من لصوص قرروا سرقتك بالاكراه ظنا منهم أنك تتقاضى مئات الآلاف شهرياً، تزيد الخطورة بالطبع في الأحداث العنيفة، وقد مر المراسلون المصريون – خصوصاً الذكور – بالكثير منها خلال السنوات الماضية، تلك الأحداث التي يرتفع فيها “الأدرينالين” في جسدك إلى مستويات عالية، وتشعر أنه نبتت في رأسك مئة عين تراقب وتترقب الخطر وأحياناً تقترب أكثر وتصافح الموت.
في الأيام الأخيرة لشهر نوفمبر عام 2011 وقعت اشتباكات محمد محمود الأولى، هذه الأحداث تزامنت مع انتخابات نقابة المحامين يوم الأحد 20 نوفمبر، وهو الحدث الذي كلفت بتغطيته ذلك اليوم، ابديت تذمري لرئيس التحرير موضحاً أن الأولوية لتصاعد الأحداث في محمد محمود، في النهاية ذهبت إلى نقابة المحامين مرتدياً بدلة رسمية وتهيأت ليوم طويل من الإنتظار بالقرب من صناديق الاقتراع، لكن لم يمر على وجودي ساعتين الإ وهاتفني رئيس التحرير بضرورة الاسراع إلى ميدان محمد محمود حيث بدأت جولة جديدة من الإشتباكات، إنتقلت سريعاً إلى هناك مع المصور المرافق لي، لم يكن لدي وقت لأبدل ملابسي الرسمية بأخرى أكثر راحة، وحقيقة لم أفكر في ذلك.
عندما وصلت لم أكن أتخيل المشهد ولايستطيع أحد أن يتصور مدى سوء الوضع ذلك اليوم ، أكثر مخرجي أفلام الحركة خيالاً لن يخرج بصورة قريبة الشبه حتى ، ولن يعرف أحد أبداً حقيقة ماجرى باستثناء من تواجدوا ذلك اليوم ، بدأت عملي ووجهت المصور لبدء التصوير، أختبرت في ذلك اليوم نوعاً جديداً من الغاز الذي استخدمته قوات الأمن هو أقوى بكثير من مثيله إبان الثورة ، رأيت العشرات يعودون من الصفوف الأمامية مغشياً عليهم أو مصابين ، كان أصوات قنابل الغاز وسرينة الإسعاف وصيحات المتظاهرين لاتتوقف، بل تمتزج سوياً لتكمل “عبثية” المشهد .
في ساعات النهار الأخيرة وبينما كنا نبدل أشرطة التسجيل ونستريح قليلاً من استنشاق الغاز في شارع باب اللوق ، لاحظت تحركا لرتل مدرعات تابعة للجيش يتجه الى شارع محمد محمود من جهة قوات الشرطة ، شعرت أن تطوراً آخر قد يحدث فأسرعنا عائدين، لم تمض دقائق حتى بدأ المتظاهرون في الهروب بشكل جماعي مع تقدم قوات الأمن، كان علي في هذا الوقت أن أهرب معهم لكني آثرت البقاء قليلا حتى أحصل على لقطات أفضل لتقدم قوات الأمن ، لم أكن أعلم أن قوات الجيش اقتحمت الشارع أيضاً من جهة القصر العيني وأحكمت “الكماشة” على العشرات الذين لم يهربوا في الوقت المناسب .
كنت مع زميلي المصور بين عشرات تم ضربهم بقسوة على الرصيف الملاصق لسور الجامعة الأمريكية في مدخل شارع محمد محمود، حتى بعد أن صرخت عدة مرات أنني مراسل، اعتدي علينا بالهراوات السوداء، وكعوب البنادق والعصي الكهربائية، بدأت الصورة تفقد ألوانها أمام عيني وتتحول الى اللون الأبيض مع صوت أنفاسي الملاصقة للأرض التي تخفت تارة مع صرخات من حولي ومرت الدقائق كأنها ساعات لاتنتهي، فقدت الشعور بأجزائي وفقدت أيضا رؤية زميلي، لم يكن هناك من مخرج حتى سمحوا لنا بالهرب، ركضت بعد أن عاد إلى شيء من التوازن لم أتوقف الا في منتصف “كوبري” قصر النيل وما إن رأيت شخصا يحمل كاميرا ويدخل سيارة متوقفة حتى أسرعت إليه واخبرته أني مراسل، كانت الدماء على يدي ووجهي تقول الكثير سحبني الى داخل السيارة، حاولت أن أتصل أكثر من مرة بزميلي المصور دون جدوى حتى رد غريب على هاتفه وأخبرني أنه نُقل إلى الاسعاف، بالطبع أبلغت رؤسائي ولم يتحمل جسدي أكثر من ذلك ففقدت الوعي …
إصابتي لم تتجاوز الرضوض والكدمات القوية في الرأس والجسد، وأصيب زميلي المصور بجروح قطعية في الرأس توجبت تدخلاً جراحياً، وفقدنا مامعنا من معدات بما فيها من تسجيلات وثقت جزءاً من ما حدث، لم تتح لي الفرصة حتى اليوم أن أشكر زملاء المهنة الذين أنقذوني، لم أعرف أسماؤهم وطبيعة عملهم فقط أتذكر “لوجو” On tv الذي كان معهم لكني مدين لهم بحياتي .
استمرت أحداث محمد محمود ستة أيام ، استقالت أثناءها حكومة الدكتور عصام شرف، وأصيب حوالي 3 آلاف مدني في أقل التقديرات، وتوفي 31 آخرون وفق التصريحات الرسمية ، منهم صحفيون ومراسلون ومصورون فقد بعضهم عينه تماماً، كان من الممكن أن أكون من بين الضحايا، لكني في ذلك اليوم تعلمت أهم دروس المهنة وهو أن السلامة الشخصية فوق كل سبق، والثوان التي تخاطر فيها بحياتك هي التي ستقربك من مصافحة الموت.