أتذكر أم سعد التي تبلغ من العمر الآن أكثر من سبعين عاما، نحيفة لكنها عفية نشيطة لم تفقد إصرارها ولا عزيمتها على استكمال رحلة البحث عن الرزق اليومية التي بدأتها منذ عقود. أراها على هذا الحال منذ خرجت شخصيا إلى الشارع طفلا تحمل على رأسها فاكهة الموسم (عنبا أو مانجو أو جوافة) في قفص صنع من سعف النخيل الجاف، لتبيعها في القرى المجاورة أملا في قروش ولاحقا جنيهات تساعدها في سد رمق عائلتها. مذكرات طفل ريفي
استوقفتها يوما أثناء زيارة زيارة لقريتي الصيف الماضي، واشتريت منها حبات مانجو وعناقيد عنب طبيعية مئة في المئة (خالية من الهرمونات والمحسنات والمقويات لأنها تاتي بها من شجيرات قريبة من منزلها وتحت رعايتها) لكني وددت أن أعرف عنها أكثر.. سألتها فأجابت وأسهبت.. قالت:
“كان للمرحوم زوجي (توفي قبل تسع سنوات وكان على مدى عقود يرافقها على عربة يجرها حمار عربة كارو في بيع فاكهة الموسم في القرى القريبة) زوجة قبلي. أنجبت له عشر اطفال ذكور لكن الواحد منهم لم يكن يستمر على قيد الحياة طويلا بعد مولده فرحلوا تباعا كما جاءوا إلى الدنيا تباعا. فقدت الأم المكلومة بصرها حزنا على فقدها لأطفالها واحدا تلوا الاخر فصارت تحتاج إلى من يرعاها ويرعى زوجها”.
وأضافت أم سعد “طلبت تلك الزوجة من زوجها أن يبحث عن عروس جديدة تكون قادرة على خدمتهما معا فبحث الرجل حتى عثر على قريبة له في قرية مجاورة كانت في ذلك الوقت في عمر 13 عاما إلا شهرين” تقول أم سعد أو بالأحرى الزوجة الجديدة. تتذكر أن رطل اللحم في ذلك الحين كان يساوى 13 قرشا.
تستكمل أم سعد (نسبة إلى ابنها الذي أنجبته لاحقا) فتقول إنها وبعد عامين من زواجها حضرت بصحبة زوجها بائع الفواكه إلى قرية “الدناوية” المجاورة لقريتها “برنشت” بمركز العياط بالجيزة.
كانت عادة الزوجات وجل النساء في ذلك الحين ارتداء زي “قميص” مزركش يضيق عند الوسط ويتدلى أسفل الركبة وبه فتحة مثلثية حول الرقبة.
هكذا تصف أم سعد هذا الزي الممير لنساء قريتها في ذلك الوقت في ستينات وسبيعنات بل وثمانينات القرن الماضي. أجلسها زوجها إلى جوار بيت أحد شيوخ القرية من كبار السن وكان يدعى “على” لتبيع الجوافة وتركها هو إلى حال سبيله على عربته الكارو إلى موقع آخر.
لم تكد بائعة الفاكهة ذات الخمسة عشر ربيعا تستوى في جلستها لتبيع بضاعتها حتى جاءتها إحدى نساء القرية البالغات المعروفة بصلفها وأمطرتها بوابل من الاسئلة عن أسباب جلوسها في المكان وعن الزي “المدندش” ومن أي القرى جاءت ثم صرخت فجأة تستدعي شيوخ القرية وشبابها قائلة “تعالوا يا أهل البلد شوفو خطافة الرجالة. البنت دي جاية عشان الشباب والرجالة يشوفوها بلبسها المحزق…. إلخ إلخ إلخ”
لم تكن البائعة، المصدومة صغيرة السن قليلة الخبرة في التعامل مع هكذا مواقف، تعرف تلك السيدة من قبل. فتلك كانت أول مرة تدخل فيها القرية، كما أن زوجها هو من اختار لها المكان الذي تجلس فيه والرجل الأمين الذي أوكل له مهمة أن “يأخذ باله منها ” أثناء غيابه.
كما أنها لم ترتكب ما يثير الريبة أو الشكوك. تدخّل الشيخ علي وحاول منع السيدة من الإساءة للبائعة المؤتمن عليها لكنها لم ترتدع. استدعى على الفور أربعة من أقرانه مشايخ القرية المارين بالصدفة وسرد لهم ما فعلته السيدة البالغة ولا تزال في البائعة الشابة الضيفة على القرية.
استدعى كبار القرية الاربعة أبناء السيدة المتسلطة فنهروها وأبعدوها واعتذروا للبائعة.
كما طلب الشيوخ الأربعة من صاحب الدار الشيخ علي حصيرة وجلسوا عليها مجتمعين وطلبوا من المارة من أبناء القرية شراء الجوافة وكان سعر “الأوقية” في ذلك الحين ثلاثة قروش “مشرشرة” كما تقول أم سعداوي.
وخلال ساعتين أو ثلاث نفذ ما لديها من جوافة في مقابل “عامود عيش ذرة وكمية من الزبد والجبن والكشك الفلاحي وكيزان الذرة والبيض” وهي حصيلة بيع الجوافة بالإضافة إلى عشرات القروش.
ثم قام أحدهم بالتوجه إلى دكان قماش مجاور وطلب قطعة قماش ثلاثة أمتار “غامقة” اللون بسعر جنيه وخمس قروش (تم تخفيض السعر بعد فصال إلى جنيه واحد ) واصطحب معه البائعة الشابة إلى الست “عايدة القبطية” وطلب من الأخيرة “تفصيل قميص” أكثر اتساعا لصالح البائعة على وجه السرعة ويتلائم مع طبيعة نشاطها وتنقلاتها على أن ينجز القميص قبل نهاية اليوم ومنحها قيمة التفصيل المستعجل.
تقول أم سعد إنه بالفعل حصلت على حلتها الجديدة وارتدها ووجدتها جميلة ومناسبة فشكرت القوم وانصرفت بصحبة زوجها الذي حضر في نهاية اليوم. وتضيف أن هذا هو سر ارتباطها بتلك القرية حتى الآن.
تقول أم سعداوي التي رحل زوجها بعد رحلة طويلة ترافقا خلالها في كل مكان على العربة الكارو حتى توفاه الله إنها لن تركن إلى الراحة والجلوس في البيت طالما كان بها “صحة وقدرة على حمل قفص الفاكهه”.
تقول أيضا إنها انجبت عشرة أطفال بقى منهم على قيد الحياة خمسة بينهم سعد الذي يعمل الآن على “تروسيكل” يبيع الفاكهة في القرى كما فعل والداه. أما هي فتحاول مساعدة البنات الأربع في معيشتهن الصعبة في بيوتهن مع أزواجهن.
نرشح لك: يوميات طفل ريفي (3).. إيه اللي يعدي البحر ولا يغرق؟!
شاهد: يوم #مش_عادي في ضيافة الإعلامية سالي عبد السلام