لا يزال كل شيء عالقًا عند دقات الساعة الرابعة فجرًا من يوم الثلاثاء، الخامس من مارس لعام 2019. تلك الساعة التي شعرت حينها بأن الدنيا توقفت فجأة بوفاة أبي، وكأن غطاءً كان يسترني قد نُزع من عليّ دون مقدمات.
لحظات متتابعة من الصدمة والبكاء لا سبيل لوقف تزايدها. محاولات إقناع عقلك بأن يستوعب الموقف لا تجدي نفعًا. البكاء لا يكفي للتعبير عن مدى الحزن بداخلك. لا أحد يصدق. الكل ينهار من الصدمة ويبكي ويسقط أرضًا.. إلا أمي؛ جالسة إلى جواره، تضع يدًا على رأسه والأخرى على صدره، تنظر إليه باكيةً ولا تقول شيئًا سوى “الصبر يارب”.
يمر الوقت بطيئًا جدًا جدًا، يزيده ثقلا توافد المعزين. يُدفن أبي؛ ينتهي العزاء؛ ينصرف الكل لحياته وشؤونه، ويبقى أهل البيت في حزنهم.
** إحدى ليالي شهر رمضان الماضي
– تاعب نفسك ودايخ تهاتي هنا وهنا ورايح جاي كل يوم عشان تحل مشاكل الناس اللي نعرفها واللي منعرفهاش ليه.. ما تريح دماغك.
– الناس فاكره إنها بالصلاة والصوم بس.. ميعرفوش إن إصلاح ذات البين وإنه يبقا في بيت هيخرب وواقف على الطلاق وإنت تروح تصلح ما بينهم ده ثوابه أكبر وأعظم عند ربنا.. أنا عندي ذنوب ربنا وحده أعلم بيها، بس والله يا بنتي عمري في حياتي ما غفلت لحظة عنه.. طول الوقت ربنا في بالي في عز ما أنا بعمل الصح وفي عز ما أنا بعمل الغلط فاكره.
** أثناء مشاهدة أحد برامج التوك شو
– ده راجل كداب كدب.
– (بصلي وضحك).. ماله ما بيقول كلام زي الفل اهو.
– ده كداب وبيدلس ع الناس عشان مصالحه وو…
– ما كلهم بيدورا على مصالحهم.. خليكي في حالك انتي بس وسيبيهم منهم لبعض.. دي ناس بتقع لما تخلص المصلحة.
** قبل أيام من الوفاة
– إيه الأحوال؟
– كله تمام.
– ناوية على ايه الفترة الجاية؟
– مش مخططة لحاجة بصراحة بس عادي يعني أهي ماشية.
– هي ماشية آه بس العمر بيعدي خدي بالك.
– ( ضحكت).. هنوقفه يعني ولا ايه.. كله بتساهيل ربنا.
– لا مش هنوقفه بس أنا اللي عمري بيعدي ونفسي اطمن عليكوا قبل ما أموت. عموما فكري صح واختاري صح. ربنا يوفقكوا يا بنتي ويسترها عليكم.
** عيد الأم الماضي
– تعالى شوف العيال جابوا لي ايه في عيد الأم.
– (ضحك).. هما الرجالة دايما مظلومين.
– إنت اللي زعلان عشان مفيش عيد أب.
– وازعل ليه مش عاوز حاجة.. انتوا اللي هايصين أعياد واحتفالات مع إن الأب هو اللي طالع عينه.. حتى بتعيشوا أكتر وبنموت إحنا بدري بدري.
كنا قد اتفقنا مبكرًا على هدايا عيد الأم هذا العام، وجهزنا أنفسنا للاحتفال بأمي، لكن توقف كل شيء بوفاته، ولم نشتر الهدايا ولم نحتفل بها. في الحقيقة لأول مرة أشعر أن هذا اليوم مؤلم. وبعض الآلام لا يفنيها تتابع الزمن ولا انقطاع الأسباب. فقلت ننتظر حتى تهدأ الأحوال، لكن المؤكد أنه لا شيء يعود كما كان، فبعض الأشخاص يأخذون أجزاءً منك ويرحلون تباعًا، فلا يتبق لك إلا القليل من الشخص الذي كنت عليه.
الأب هو السند والأمان والحماية والحب والقوة، لا نشعر بكل هذه الصفات على حقيقتها إلا بعد رحيله، لا أحد يحبك _مهما كنت سيئًا_ مثله، ولا أحد يتمنى نجاحك أكثر منه غيره، ولا أحد يحمل هم مستقبلك غيره.. ولا يعوّض غيابه أحد.
رحمة الله عليك يا أبي يا صاحب القلب الكبير..