عبد البصير حسن
أتذكر “عم أحمد” رحمه الله وأتذكر حتى الآن بهو منزله المنتقل إليه حديثًا، والذي اكتست أرضيته بقطع البلاط ودهنت جدرانه باللون الأصفر ووضع في البلاد “كليم” كبير يغطي المكان بكامله ليسمح بجلوس أكبر عدد ممكن منّا نحن الأطفال؛ على البساط وليس على الأرضية الخالية التي ربما كانت باردة في الشتاء أو ساخنة في الصيف.
لم يكن التيار الكهربي بلغ قريتنا في تلك الأثناء نهاية السبعينات وبداية الثمانينات في القرن المنصرم، كان امتلاك جهاز راديو يعمل بالبطارية ميزة لمن سافروا خارج البلاد أو وجهاء القرية، فما بالك بحيازة جهاز تلفزيون أبيض وأسود 12 بوصة أو 14 بوصة، كان والدي مسافرًا في تلك الأثناء وكنت الأصغر بين الصبية في أخوتي.
كان عم أحمد واحد من أسماء قليلة جدًا في القرية لديه تلفزيون (أبيض وأسود – 12 بوصة – أصفر اللون بزرين اثنين متجاورين على يمين الشاشة صناعة شركة “النصر للتلفزيون” يعمل بالبطارية السائلة والتي كانت تحتاج لشحن كل يومين أو ثلاثة في قرية مجاورة وصلتها الكهرباء قبلنا بكثير).
اعتدنا أن نجمع بعضنا البعض نحن الأطفال في سن السابعة وحتى العاشرة ويزيد، ونذهب فور تناول طعام العشاء عقب أذان المغرب إلى بيت عم أحمد لنتابع المسلسل العربي الذي كان موعده مقدسًا، السابعة والربع مساءً كل كليل وتقدم بالتنويه له إحدى نجمات الربط التلفزيوني في ذلك الحين ومنهن نجوى إبراهيم، فريدة الزمر، ماجدة أبو هيف، فريال صالح، نادية حليم، سهير الإتربي، عزة مصطفى، حياة عبدون، سهير شلبي، جانيت فرج، سامية الإتربي، أحلام شلبي، هناء مصطفى.. وغيرهن؛ بمجرد ظهور إحداهن على الشاشة يسرع الجميع لنفض يديه مما ينشغل به ويستعيد تركيزه للشاشة فقد حان وقت المسلسل العربي.
كان عم أحمد يستضيفنا نحن الأطفال في منزله البسيط كل مساء في الأيام العادية لنشاهد مع أطفاله وكانوا “بنتين” في مثل عمرنا قبل أن ينجب ذكورًا لاحقًا. وفي رمضان وعقب الإفطار كنا ننطلق كالسهام نحو منزل عم أحمد لنشاهد فوازير “نيللي” في نهاية السبعينيات ثم “فطوطة وسمورة” لسمير غانم ونستمر حتى نهاية المسلسل العربي لاحقًا.
كان بيت الرجل يستقبل ما يزيد عن خمسين طفلًا كل مساء دون أي مقابل ودون أي ملل أو ضجر أو أي نوع من التذمر، كان يعلم أن الأطفال سيأتون كل مساء فيترك الباب مفتوحًا ويذهب ليصلي المغرب ويأمر زوجته التي لم تقل عنه جودًا وكرمًا وصبرًا (رحمها الله) بالسماح لنا بالجلوس دون أي تضييق أو ضيق؛ كان بيت عم أحمد بمثابة “دار عرض سينمائي مجاني للأطفال”.
كنا نشاهد في صمت وفور انتهاء المشاهدة نهب جميعًا نجري مع نزول تتر النهاية للمسلسل لاستكمال اللعب، في الظلام الدامس وقبل عصر الكهرباء، من بين كل من كنا نتجمع عندهم نحن أطفال القرية لنشاهد التليفزيون، لم يحدث أبدًا أن غضب عم أحمد أو زوجته رحمهما الله، من تجمع الأطفال في بيته بهذه الكثافة، لم يتأففا يومًا ولا ابنتيهما الطفلتين في ذلك الحين.
استمر الحال هكذا بعض سنوات حتى عاد والدنا من سفره واشترى جهاز تلفزيون للأسرة، وكانت والدتي نبهته ألا يشتريه سلفًا حتى لا ينصرف أشقائي الكبار عن دراستهم في هذا السنوات المبكرة من عمرهم، وذلك استنادًا إلى نصيحة خالِ مقيم في المدينة كان يزورنا من آن لآخر ويشكوا من تأثير التلفزيون على مذاكرة أبنائه رغم أنه لم تكن هناك سوى القناة الأولي والثانية في تلك الأثناء؛ إحداها كانت تبدأ إرسالها منتصف النهار وتختتم مع منتصف الليل، والثانية تستمر لساعات محدودة في النصف الثاني من النهار.
تذكرت ذلك كله عندما تابعت إعادة حلقات مسلسل “الشهد والدموع” على إحدى القنوات المحلية، ناهيك عما تقدمه قناة ماسبيرو زمان من إعادات لإبداعات زمن فات لا يزال يجد اهتمامًا كبيرًا من قبل جيل عاش حقبة كانت في الدراما المصرية تجمع جميع أفراد العائلة في وقت شبه مقدس واحد، لا يشغل أحدهم تليفون محمول أو فيس بوك أو واتس آب أو سناب تشات أو … أو .. أو أو من عناصر الزمن الحالي.
أيضًا كانت الدراما تراعي العادات والتقاليد وقيم المجتمع بحيث لا يجد أي من أفراد العائلة حرجًا من “الفرجة الجماعية” على عمل درامي راقي وهادف؛ هكذا كانت الدراما في الماضي وسيلة من وسائل التنشئة والتربية قبل أو بجانب الإمتاع والتسلية.