ربما نجد مصريًا تجاوز عمره المائة؛ عام وبهذا يكون شهد في عمره ثورة 19 وثورة 52 وثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو، حينها سنتمنى لو أنه يجري حوارًا تليفزيونيًا كبيرًا ليرصد لنا رؤيته لتاريخ مصر الحديث وما حدث، لكنه بالتأكيد سيرصدها من وجهه نظره الخاصة ورأيه في كل حدث حسبما كان تأثيره عليه، لكن الواقع أنه اذا أبحر مبدع في أعماق التاريخ فقرأ كل ما استطاع قراءته من مختلف وجهات النظر، ثم غلف ذلك بنكهة فنية وفكرة جديدة تحمست لها شركة إنتاج، ووقع في غرامها مخرج مبدع فبالتأكيد سيخرج عمل فني يبقي في الذاكرة وهو ما حدث مع مسلسل (أهو ده اللي صار). مسلسل أهو ده اللي صار
هذا ما فعله السيناريست عبد الرحيم كمال عندما وجدناه يعزف سيمفونية مكونة من حوار راقي يجمع بين الإبداع في اللفظ والمعنى والقيمة، حاجة كده من ريحة السيناريست الراحل أسامة أنور عكاشة ولكن بلغة العصر وبفورمات مصرية خالصة، تغزل أزمنه مختلفة وقع في غرامها المخرج السوري حاتم علي ليخرج شريطًا سينمائيًا في صورة مسلسل درامي يحفز المشاهد علي التفكير وقراءة التاريخ والشعر، والاستمتاع بحالة فنية فريدة على أنغام الموسيقار التونسي أمين أبو حافه. وعلى الرغم من تعليق مهم للصديقة الإعلامية المثقفة ريهام منيب عن استغرابها من إضاءة القصر بالشموع رغم وجود الكهرباء في هذا الوقت، لكن شاعرية العمل تجاوزها الكثيرون.
عمل يبقى في الذاكرة كثيرا، قام فيه بتجسيد الشخصيات فنانون متميزون “بزيادة”؛ أحمد داوود، روبي، والذين نجحوا في فصل شديد عند تجسيد شخصيات 1918 وشخصيات 2018. ومن بعدهم القديرة سوسن بدر صاحبة الحق الحصري في تجسيد ما يخص تاريخ مصر الحديث. والمبدعون: محمود البزاوي، محمد فراج، علي الطيب، أروى جودة، هشام إسماعيل، وأخيرا وليس آخرًا المتميز هاني سيف (سي جوني)، والذي قدّم أدوارًا كثيرة منها “الجماعة” و”السندريلا”، حيث استغل المخرجون ملامحه الأجنبية؛ فأبدع فيها جميعا وأكدها (سي جوني)، خاصة عندما طوّر اللهجة مع تطور عمره، وفي انتظاره في تحدي جديد لدور ابن بلد.
ربما يكون الخط الرئيسي هو قصة حب تحكي تاريخ مصر والإسكندرية في 100 عام، ورحلة من 1918 وحتي 2018، لكنه خط رئيسي تخلله خط تاريخي ليس سياسيا فقط بل للمجتمع ككل، متنوعا بين ثلاث أزمنة مختلفة، ربما وقع السيناريست عبد الرحيم كمال في فخ التعبير عن قناعاته الشخصية كإنسان صوفي، وفخ طرح آراء سياسية مثل تناول خط الإخوان بشكل مباشر ومجتزأ جدًا فظهر سطحيًا وربما مقحمًا.
لكن هذا لا يمنع من أنه أعاد لنا فكرة العمل الذي يبدأ من المؤلف؛ الأمر الذي غاب كثيرًا برحيل أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي وتوقف مشاهدة إبداع لينين الرملي وظهور المبدع وحيد حامد كل فترة طويلة، لكن الأمل لا يزال قائما مع عبد الرحيم كمال ومدحت العدل وعمرو سمير عاطف ومحمد حفظي ومريم ناعوم وأيمن مدحت ومصطفي جمال هاشم ومحمد سيد بشير، وربما تزداد القائمة مع تناقص إنتاج رمضان 2019، مما يضع فرصة للجودة رغم أننا نتمني وجود الجودة وزيادة كم الإنتاج في آن واحد.
لما نتأمل قليلا تفاصيل العمل ذو الفورمات الجديدة التي لا أعتقد أنني تابعت مثلها من قبل، سنجد مقارنات بسيطة بين حال مجتمعنا المصري منذ 100 سنة وكيف أصبحنا الآن في حياتنا الاجتماعية “بنتعامل ازاي مع بعض قيمنا اتغيرت ليه وازاي كنا بنعبر عن آراءنا المختلفة”. والخط الذي يلخص الحكاية من وجهة نظري هو خط القصر الذي يمثل صراع الفن والأصالة أمام التجارة والفساد وسيطرة النفوذ والمال، وهو صراع مستمر شاهدناه يومًا ما في “الراية البيضا” ونشاهده مع قصر نوار باشا وصراع يوسف التالت الذي نراه صراعًا محسومًا للرداءة ونتمناه للأصالة في داخلنا، وننتظر ما سيصل إليه بنا المسلسل.
في عمل مثل هذا يثني الجمهور على الممثلين ويناقش النقاد والمثقفين المؤلفَ والمخرج، ويبحث أهل المهنة عن أسماء مدير التصوير المتميز ومصحح الألوان والمونتير والملابس ومؤلف الموسيقى، فكل من وراء الكاميرا كان لهم دور كبير في مصداقية العمل وإدخال الممثلين في زمن غير الزمن دون هفوة تصرف الجمهور عن المتابعة.
أذكر أنني كنت في حفل افتتاح مكتبة الإسكندرية 2002 وحينها قام مايسترو نمساوي علي ما أتذكر بقيادة الأوركسترا في أغنية (أنا المصري كريم العنصرين)، وبعد نهاية الحفل طلب من مرافقيه زيارة منزل مؤلف هذه الموسيقى قبيل مغادرة مصر، وكم كان مذهلا بالنسبة له عندما علم أن صاحب هذا اللحن رحل منذ أكثر من 80 عام وقتها، وهو أمر يجعل أن هناك عبقرية في اسم المسلسل المأخوذ عن أغنية (أهو ده اللي صار) لخالد الذكر الإسكندراني سيد درويش، و”اللي لو حد عمل بحث في محركات البحث هيلاقيها بأصوات فيروز وعلي الحجار وفايا يونان وغيرهم كتير غنوها مش بس عشان اللحن لكن عشان كلمات بيرم التونسي اللي عاشت عشان يقول المسلسل للمشاهدين مصر كانت إيه 1918 وأهو ده اللي صار يا مصر 2018!”.