ألقوا القبض عليها، لا هى راقصة ولا مطربة، لا تستطيع أن تضعها وأنت مطمئن تحت أى تصنيف، وبالطبع لن أستبق التحقيقات، التى تجرى حاليا، وأطلق عليها صفة تحمل إدانة، رغم أن بعض الأجهزة سارع بذلك حتى قبل أن يضعوا يديها فى «الكلابشات».
التهمة هى تصوير فيديو كليب قبيح. تابعت الفيديو المذكور عبر «يوتيوب» بعد أن وجدت عديدا من زملائى يريدون، مشكورين، أن أدلى برأيى فى «الكليب» على صفحات جرائدهم، كنت عائدا لتوّى من مهرجان «كان»، وأنا محمّل أيضًا بأعمال فنية فيها ما هو أكثر، وبينها فيلم فرنسى عُرض رسميًّا فى إطار المهرجان، وإن كان خارج التسابق، واسمه «حب»، رغم أن صحة التوصيف هى «جنس». الفيلم مصوّر طبقًا لتقنية الأبعاد الثلاثية. الغريب فى الأمر أن التزاحم على مشاهدته وصل إلى الذروة، لدرجة أن قسطا لا بأس به من النقاد والصحفيين، ولم أكن منهم، ضحّوا بالفيلم المعروض رسميًّا فى المهرجان رغم أنه ينتهى عرضه قبل فيلم «الجنس»، عفوا «الحب»، بنحو 35 دقيقة، وهى مدة كافية لضمان اللحاق بفيلم الجنس، لكن لأن السماح بأسبقية الوقوف أمام دار العرض، فقد ذهبوا مبكرا، بينما أنا شاهدت الفيلم الرسمى فى قاعة «لوميير» الكبرى، وكان بالصدفة «ديبان»، الذى فاز بالسعفة الذهبية، وسارعت بالصعود إلى القاعة الأخرى «بازان» الأصغر حجمًا، ووجدت مكانًا رغم الزحام المتزايد على الباب، حيث إننى من هؤلاء الذين لديهم كارنيه مميّز بلون أحمر، وداخله نجمة، يسمح بدخول العرض مهما كان الزحام شديدا، وهذا بالطبع لا يندرج تحت بند «الكوسة»، لكن بحكم تاريخى مع المهرجان، حيث أُكمل العام القادم «يوبيلى الفضى» مع «كان»، 25 عامًا.
انتهى العرض بعد ساعتين وربع الساعة، وسمعت فى الصالة صيحات استهجان، لم أرَ لها مثيلا فى هذه الدورة أو الدورات السابقة، ورغم ذلك وأنا خارج دار العرض، وجدت مئات ينتظرون ويتساءلون عن موعد عرض آخر يتيح لهم مشاهدته، رغم أن صيحات الغضب من المؤكد وصلت إلى مسامعهم.
مثل هذه الأفلام تجد اهتماما ومتابعة حتى فى أكبر المهرجانات، لكن فى النهاية ينتصر الإبداع، فلا شك أن جمهور فيلم مثل «ديبان»، خصوصا بعد تتويجه بسعفة «كان» مهما كان لى أو لغيرى من ملاحظات سلبية، وذلك لأن أفلاما أخرى كانت هى الأجدر بالسعفة، إلا أنه من المؤكد أن شغف الناس بفيلم «ديبان» سوف يزداد مع الزمن، بينما فيلم «حب» لا أتصور إلا أن الأيام سوف تخصم منه الكثير.
تنويعة أخرى حدثت أيضًا فى «كان»، إنه فيلم «الزين اللى فيك» للمخرج المغربى نبيل عيوش، الذى عُرض فى قسم «أسبوعى المخرجين»، ولا تزال توابع زلزال العرض قائمة، حيث إنهم فى المملكة المغربية يطالبون بمعاقبة كل من شارك فى تنفيذه، وليس فقط الأبطال والمخرج، ورغم أننى أرى أننا بصدد عمل فنى ردىء ليس بسبب تعرضه لقضية الدعارة فى المملكة، وذلك لأن كل دول العالم بها من يمارس أقدم مهنة فى التاريخ، لكن لأن المخرج أسرف وقدم عرضًا تجاريًّا، ولم يحمل أى رؤية سوى أنه وضع جمهوره فى بوتقة ساخنة من الجنس والشذوذ والسحاق، وأضاف فوقها «رشة» جريئة، مبالغا فيها من الألفاظ السوقية، وبالصدفة كان يجلس بجوارى فى أثناء المشاهدة الإعلامى والناقد الكبير والمدير الفنى لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى يوسف شريف رزق الله، سألته: هل تجْرؤ على عرض هذا الفيلم فى مهرجان القاهرة القادم؟ أجابنى: أشك أن يعرضه أى مهرجان عربى!
يقينى، أن مثل هذه الأعمال، التى تتدثر عنوة بالفن مصيرها هو النسيان، مع الأخذ فى الاعتبار أن العرْى ليس فقط فى إظهار مساحات من الجسد، لأن هناك أيضا عُريا آخر لا يقل خطورة، إنه عرى الفكر. كثير من الأفكار العارية التى يعوزها المنطق صارت هى الخبز اليومى للفضائيات، وتمنحها مساحات من الاهتمام، رغم أن الوسيلة المثلى لمواجهتها هى التجاهل.
تابعت فى الأشهر الأخيرة فقط عديدا من الباحثات عن الشهرة عبر النت، وطريقهن هو التخفف من أكبر قسط من الملابس، ولدينا على المقابل الوجه الآخر للعرى، وهو القائم على مبدأ الصدمة، فما دام الجمهور متعطشا أمنحه المزيد لإثارة الانتباه، خصوصا تلك الآراء التى تضرب فى ثوابت دينية أو اجتماعية. الفضائيات الناطقة بالعربية وصلت -والحمد لله الذى لا يُحمد على مكروه سواه- إلى نحو 1500، كلها تتسابق فى مساحة محددة من التوقيت، أطلقوا عليه الذروة، وهو أربع ساعات قبل منتصف الليل، رغم أن فضائية «دريم» مع صديقنا الإعلامى اللامع وائل الإبراشى زادتها إلى ثلاث ساعات بعد منتصف الليل.
المادة المفضّلة التى تُثير شهية المشاهد تنحصر فى نوعين كانا فى الشهر الماضى هما اللذين تسيّدا الموقف، يجمعهما شىء واحد مشترك، وهو العُرى، الأول من خلال راقصة حاولت أن تلجأ إلى أبسط الطرق لتحقيق الشهرة، وهو أن تتخفف من ملابسها أمام الكاميرا، وتعيد تقديم أغنية شهيرة لعل وعسى تحقق رواجًا، بينما الثانى كاتب ابتعد وانزوى عن الحياة الفكرية تماما معتقدا أنه هو الأعلى والأهم، وأن هناك حملة كونية يقودها عدد من الجهات الدولية لمنعه من الوجود، عاد إلى الميدان بفكرة مشوشة، اعتقد أنه عبقرى أوانه وفلتة زمانه، مؤكدا أن الكل اهتم بفكرته المشوشة لأنه قائلها، بينما الحقيقة هى أن جنوح الفكرة، والذى يصل إلى تخوم الجنون هو الذى دفع الميديا إلى الاهتمام.
فى العالم كله ومع اختلاف الدرجة هناك قدر من الاهتمام والشغف بمثل هذه السقطات الجسدية أو الفكرية، لكن ستجد أن الولع الإعلامى لدينا قد زاد على حدود المسموح، يقولون فى تفسير ذلك إن جمهور «التوك شو» فى مصر والعالم العربى صار متخمًا بتلك الصراعات، التى نراها عبر الفضائيات فى الشأن السياسى بعد أن وصل إلى مرحلة التشبع ولا يريد أو حتى يطيق المزيد منها، ولهذا توجه إلى متابعة تلك القضايا التى تُنسيه واقعه السياسى.
هل نواجه العرى بالمصادرة أم بطرح البديل؟ هل من الممكن أن تُجدى المطالبة بإسقاط الجنسية فى المغرب عن كل من شارك فى فيلم «الزين اللى فيك»، ويصبح المخرج ومن معه من الممثلين والممثلات أمام الرأى العام المدافعين عن الحرية، بينما فى الحقيقة نحن بصدد عمل ردىء فنيا، ومن قدموه شرف لهم أن يتصدروا المشهد باعتبارهم المدافعين عن الحرية؟ سلاح نزع الجنسية لا يمكن منحه أى مشروعية، ومهما كانت الأسباب.
هل التهديد بحبس كل من قدمت فيديو به عُرى فى مصر من الممكن أن يُغلق تماما هذا الباب؟ أليس من الممكن أن تتسع الدائرة، وفى هذه الحالة من الممكن أن يطول نفس الاتهام أغانى هيفاء وإليسا ومايا وروبى وغيرهن، هل سيُعامل الجميع بالمثل، أم سننشئ قسمًا خاصًّا فى سجن القناطر لمطربات الفيديو كليب؟
أنعش ذاكرتم بما حدث لفيلم «حلاوة روح»، صادره رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب قبل نحو عام وسط حفاوة إعلامية ومبايعة اجتماعية ومؤازرة سياسية بحجة الحفاظ على الأخلاق الحميدة، وأقام منتج الفيلم دعوى قضائية، وجاء الحكم لصالحه، وعرض الفيلم مجددا وكاملا داخل دار السينما، فلم يشاهده أحد.
مثل هذه الفرقعات الإعلامية تعيش وتتنفس فقط بالضجة، التى تحققها عبر الميديا، وعندما نتجاهلها تموت بالسكتة الجماهيرية سواء أكانت عريا جسديا أم فكريا!
نقلًا عن جريدة “التحرير”