ربما تجاوز جيلي المستهدف من كتاباته، وإن ظلت رواياته تنطلق من معنى كنت مؤمنًا به كل الإيمان: “إذا كان الشعر موقف من العالم، فإن الرواية هي العالم حين يتحول لموقف”. يُعرض على كاتب كي يحوله لحياة، ومن ثم يُعلق عليه، ويُسرب رأيه المتقاطع مع العالم وأزمته. غالبًا في طقس استشرافي خيالي يعتمد اعتمادًا كليًا على قراءة واعية للآن وعلاقة هذا الآن بالمستقبل.
من علامات الروائي الجيد أن تنشأ علاقة خاصة بينه وبين قارئه. تقترب من كونيهما صديقين يطارحان بعضيهما وجهات النظر والأفكار والرؤى. علاقة تتأسس على قاعدة الاحترام من جهة، وجدلية ثرية؛ كاشفة ومحرضة من جهة أخرى. الجميل أن من جملة مزايا السوشيال ميديا أن سمعنا الرجل بعيدًا عن دوائر إبداعه، آراؤه وطقوسه السابقة لفعل الكتابة، منظومة سماته الشخصية ونسق أيدلوجيته، وشكل تعاطيه مع أزمات واقعه. وللصدق وجدت رجلا متسقًا مع ذاته، مؤمنًا بقيمة الأدب كأداة للتغيير وإن لم يكن فللتثقيف.
من أجمل المناطق التي تجبرني على التأمل كثيرًا في حياة “أحمد خالد توفيق” كمبدع ذلك التماثل الشفيف بينه وبين العظيمة فيروز. فالاثنان وصلا القاهرة كبارًا. بل سبق وأن قلت: إن فيروز الصوت العربي الوحيد الذي أفقد القاهرة ثقتها بنفسها، فليس من حق هذه المدينة أن تمُن عليها بأي فضل أو تدَّعي أنها ساهمت في ذيوع صيتها عبر الآفاق. هي فقط تأتي لتغني ومن ثم ترحل. تلبي نداء الشوق لسماع صوتها وتغادر كالشمس لتشرق في بقاع جديدة. والرجل بدوره لم يبرح “طنطا” فتعامل مع القاهرة بروح عابر سبيل. ربما وجدها مدينة ضد الفن؛ حيث طقس الزحام الكريه، والتكالب الضاغط، والشللية القميئة. أو ربما تورط في عداء هذه المركزية التي تهمش بقسوة كل إبداع قادم من الأطراف. وتؤسس بلا رحمة ثقافة اللوبي. لوبي الأفكار، أو الجذور. حيث المصادرة على الفرص، أو التعامل معها كجوائز تمنح لمستجدي اللوبي من فيض كرم قدمائه.
للصدق لم يكن سهلا أن تغزو الواقع الأدبي في مصر وأنت يقينا بعيد عن القاهرة، فمنذ سيد درويش وقد استقرت السنن المؤكدة. فلو ظل خالد الذكر في الإسكندرية ربما ما كان سيسمع به من أحد. وكثيرة هي الأمثلة، بيد أن هذا لكي يتحقق وفق حالة صاحبنا، فإن الخصوصية الإبداعية هي المحك، الكتابة المتفردة بتقنياتها وأهدافها ومواضيعها تخترق مفهوم المركزية، وتطعن في قيمة القاهرة كنقطة انطلاق. والحقيقة أن “أحمد خالد توفيق” لم يبدع ويكتب هذا اللون الغرائبي من أدب رعب وخيال وفانتازيا، لكنه برغبة أصيلة قد ضرب النموذج. لأن كل الألوان التي كتب فيها كانت كالتابوهات التي أُتفق على كونها كتابة مرتبطة بالخواجة، وابن العرب ليس من بين غياهب تراثه ما يشير لهذا اللون، أو حتى مجرد وجود إرهاصات له. من هنا كانت مواهب الرجل ومقدراته أكبر من مفهوم المركزية، بل يجوز أن نقول إنه صنع كتابة لا تبحث عن فرصة بقدر ما صنع كتابة يجب أن نبحث عن صاحبها. مؤكد حدثت محاولات مستميتة لاجتذابه، وتم إغرائه، فالقاهرة رغم كل شيء تظل مدينة مغوية للأديب. لكن يبدو أنه من زاوية أخرى كان سيء الظن في مفهوم الشهرة، ويرى أن الاستسلام لحالتها وطقوسها لن يكون في مصلحة الإبداع واستمراره. وحتى لو كانت القاهرة في سمتها قد احتوت كمكان دور النشر التي أطلقت إبداع الرجل، فإن الحزن لموته لم يكن مركزيا، بل شمل كل بقعة قرأت للرجل حرفا من أدبه.
نرشح لك: في ذكرى الرحيل الأولى.. 50 مقولة أحبها القراء لـ “العراب”