عبد البصير حسن مذكرات طفل ريفي
كنت بالصف الثالث الابتدائي عندما حل على مدرستنا هذا الشاب العشريني الوسيم الذي بدا أنه ينفق كثيرا من النقود على شعر رأسه اللامع المائل للصفرة في وقت كان الصابون (القالب الاصفر لغسيل الملابس وقطع صغيرة تحتوى نسبة أقل من مثيرات الدموع للاستحمام) هو وسيلة التنظيف الوحيدة فيما اتذكر، في قرية لم تكن دخلتها الكهرباء أو المياه العذبة النقية عبر الانابيب بعد.
اسمه عمر، ابن أحد مشايخ القرية المعروفين، وقد نال لتوه شهادة من مدرسة المعلمين ذات السنوات الخمس بعد مرحلة التعليم الأساسي (ألغيت العمل بتلك الشهادة وهذا النوع من التعليم لاحقا ما جاء بنتائج عكسية كارثية على نمط التعليم وهو ليس موضوعنا الآن).
اتذكر كيف لاقى الشاب الوسيم إعجابا باديا – دون إسفاف أو تجاوز – لدى معلمات كن يحضرن من العاصمة القاهرة أو مدينة الجيزة ليقمن عدة أيام في المدرسة يبتن ويعشن في أمان تام في غرفة خاصة بالمدرسة يحرسهن عادة “فراش” أو عامل من أبناء القرية خمسيني العمر وقتئذ. كان هذا ديدن كثير من الخرجين والخريجات من الجامعات في ذلك الحين حيث كان يتم تكليف الجميع بقضاء عدة سنوات في مدارس ريفية قبل الانتقال إلى مدارس قرب محل إقامتهم.
اتذكر كيف أنه لقن أخيه الأصغر وكان في السنة الخامسة الابتدائية “علقة” حامية طارده خلالها في أنحاء مختلفة بالمدرسة بعصا قاسية لأن الأخير تأخر عن طابور الصباح في ذلك اليوم، الذي لا يزال محفورا بتفاصيله في الذاكرة ليكون أخيه عبرة يتعظ منها بقية التلاميذ.
اتذكر أنه طمأنني عندما جاء أخي الأكبر ليأخذني للعمل بأحد الحقول بعدما قبض هو الأجرة في يوم سابق – دون علم والدنا- وحبذت أنا عدم الغياب من المدرسة وتواصل مع والدي واوصاه بي خيرا.
وعندما انتقلت للصف الخامس الابتدائي كان الاستاذ عمر قد صار صاحب كلمة في المدرسة رغم وجود من هم أسبق منه سنا وخبرة.
اختص الاستاذ عمر نفسه بالتدريس للصفين الخامس والسادس الابتدائي منذ ذلك الحين. بذل جهدا خرافيا لنقل مستوى تلاميذ المدرسة إلى مستوى المنافسة مع المدارس الأخرى في القرى المجاورة. وقد كان. ذهبت معه إلى العديد من المدارس ننافس في مسابقات المعلومات والإلقاء وغيرها حتى صار لمدرسة القرية اسم يعمل له ألف حساب في تلك السنوات وما تلاها.
في تلك الأثناء ، كان ”الاستاذ عمر“ – هكذا صار لقبه على كل الألسن في كل مكان – قد أسس ما يسمى “الشرطة المدرسية ” وسلم كل تلميذ فيها قبعة حمراء عليها نسر أصفر من نحاس. صار الانضباط جزءا أصيلا من النظام المدرسي طوال اليوم الدراسي .. لا .. بل وبعد اليوم الدراسي. فأعضاء الشرطة المدرسية كانوا بمثابة رقباء انضباط لتحديد المخالفين سلوكيا خارج سور المدرسة بل وفي شوراع القرية. من يخطيء سلوكيا في الشارع ينال عقابه في اليوم التالي أمام الجميع.
كان الاستاذ عمر أول من علمنا كيف نحيي علم مصر بشكل سليم وأول من حفظنا نشيد “بلادي بلادي” إلى جوار أناشيد أخرى مثل “خللى السلاح صاحي ” و ” احسن جيش في الامم جيوشنا.. وقد الشدايد تعالى شوفنا”
كنا إذا رأينا ” الاستاذ عمر ” في شارع بالقرية، حتى أثناء العطلات الصيفية، نهرب إلى شارع آخر كي لا يرانا، رهبة منه. كان هناك ذكرى مولد أحد الاولياء يتم الاحتفال بها سنويا في القرية . تأتي الالعاب المعروفة ”كالمراجيح والمدفع وبنادق البومب“ ومعها لاعبو “الثلاث ورقات ” وغيرها. كان التلاميذ يخشون أن يراهم الاستاذ عمر أو أفراد الشرطة المدرسية في ”المولد“ حتى لو جاءت المناسبة في العطلة الصيفية.
أثناء إحدى المناسبات الاجتماعية يصاب الاستاذ عمر بطلق ناري بالخطأ في القدم ويأخذ إجازة طويلة .. تسير الامور في المدرسة وكأنه حاضر ولم يغب. كان يهوى إطلاق النار من بندقية خرطوش مصرح بها لوالده واتذكر يوم أصاب “عرجون بلح” فانفرط عقده وتساقط على الرؤوس وهروك الصغار للالتقاط الثمار.
كان ”الاستاذ عمر“ يقيم حفلا سنويا في المدرسة تزامنا مع المولد النبوي أو رأس السنة أو غيرها، أتاح خلاله للتلاميذ تمثيل فقرات من مسلسلات ومسرحيات مشهورة في ذلك الوقت ويدعو للحفل السنوي كبار الاساتذة والنظار والمديرين في الادارة التعليمية بالعياط ليشاهدونا.
اتذكر أني لعبت على مدى العامين الخامس والسادس دور ”وكيل النيابة ” في مسلسل مشهور في ذلك الحين اتذكر عبارة “أنا البرادعي يا رشدى” وكان يقوم بطولته المرحوم الممثل عبد الله غيث.
شجعني الاستاذ عمر وأحيانا كثيرة كان يرفض استلام ”ثلاثة جنيهات ” كانت هي قيمة ثماني حصص شهريا من درس خصوصي اعتاد أن يعطيه لنا في قاعة عائلية مجاورة للمدرسة عن كل المواد الدراسية.
ساهم الاستاذ عمر أو قل كان سببا جوهريا في تفوقي في الشهادة الابتدائية بفضل تشجيعه ورهاناته الفائزة. كان يراهن بي نظار المدارس الاخرى وقد كلل الله رهاناته بالتوفيق.
انتلقت إلى الاعدادية في قرية مجاورة ولم تنقطع عنا رسائل الاستاذ عمر المتوالية التي حثت على التزام الصلاة في أوقاتها والتزام العمل الجاد واحترام الكبير والنظافة التامة للجسد والملبس والانضباط السلوكي والبعد عن أي مؤذيات للنفس و البدن في اأي وقت.
اعتاد الاستاذ عمر أن يفتح المدرسة كل مساء في العطلة الصيفية أمام أبناء القرية المتفوقين من الاعمار المختلفة ويشكل فرقا لتلعب الكرة الطائرة هو واحد من أعضاءها . تواضع مع الكبير والصغير فكان في المعلب ندا رحيما ودودا حريصا على سلامة الجميع.
هكذا توالى خروج الاجيال من المدرسة الابتدائية بالقرية لسنوات طويلة رفض خلالها ”الاستاذ عمر“ أي إغراءات مادية بالتوجه إلى بلد عربي ” في إعارة ” كما كان الحال مع كل أبناء جيله. رفض كذلك الترقيات المتوالية التي جاءت إليه ليكون موجها أو مديرا لمدرسة هنا أو هناك في إطار المركز الاداري أو المحافظة. رفض كل ذلك وتشبث بالبقاء معلما في ذات المدرسة وذات القرية.
لم تزعجه تلميحات متواليه من أبناء جيله ورفاق دربه الدراسي بأنه لم “يكُن شيئا ولا يملك سيارة أو شقة أو قطعة أرض … أو.. أو أو” كان يقول دائما لاسيما في اقتراب سن الرشد ” دورنا لخراب الدهر نبنيها”.
استمر أنا في دراستي الاعدادية واتفوق على أقراني في المدرسة التي تضم عديدا من أبناء القرى المجاورة فأجده يتحدث عني وبكل فخر في مناسبات مختلفة ويقول “هذا تلميذي” ويرسل في طلبي مهنئا ممتنا وسعيدا.
يتكرر المشهد ذاته في الشهادة الثانوية التي نلتها من قرية أخرى مجاورة فإذا به يهديني قميصا ويقول ”هذا لك لتتذكرني وأيضا لتوفر بعض من كلفة الجامعة على والدك.“
طوال السنين اللاحقة كان يقابل تلامذته الذين صاروا في وظائف مختلفة واحدا تلو الآخر ويقول له مازحا ” يا ولد انا أبلتك (من أبلًه أي مدرسة بالمصرية أو أخت بالتركية)”
كان يقولها مازحا وأحيانا يمسك بعصاه ويهدد بها مازحا أيضا.. وكأنه يقول ”أنا في مقام الوالد والاخ الكبير، لا تنسي أن كنت معلمك“.. كانت مقبولة لدى الجميع إلا لدى من وجد في نفسه بعضا من “كبر” فأبى هذا التصرف منه وأنكره عليه .. (وأظنهم الان نادمون).
تستمر الرسالة دون أي تغيير .. ينتقل الاستاذ عمر إلى إدارة مدرسة جديدة في نفس القرية وفي نفس المرحلة الابتدائية رافضا التحرك إلى أي موقع آخر أو أي ترقية مهما كان الاغراء. المدرسة الجديدة المجاورة للقديمة بنيت في اعقاب زلزال 1992 .
المدرسة تفوز لعدة سنوات بتكريمات متعددة منها شهادة الايزو وكذا المدرسة المتميزة بسبب النظافة والنظام والانضباط رغم كونها مدرسة حكومية في قرية فقيرة محرومة.
ويستمر الاستاذ عمر في داء رسالته بكل اقتدار وأمانة وحب وتفاني لدرجة أنه كان يقضى معظم وقته في المدرسة كما كان يفعل في ريعان شبابه. يكبر الاستاذ عمر ويشيب الشعر الاصفر دون يفقد رونقه ونظامه ووسامته خلف النظارة الطبية التي أظهرت ضيقا في فتحة العين ..
لكن في السنوات الاخيرة، شئ ما بدأ يتسرب إلى ملامح الاستاذ عمر .. أطلق لحيته دون إسراف، بدأ التأمل يأخذ قدرا من وقته، لم تعد العينان تحتفظان ببريقهما السابق واقبالهما على الحياة..
أعود إلى قريتي ذات مساء يوم جمعة قبل ثلاث سنوات، أسمع صراخا مكتوما إلى جوار بيتي لدى طبيب .. أسال ما هذا .. تأتي الاجابة من جار آخر ..” يقولون الان الاستاذ عمر مات..”
يتجه الجثمان نحو مثواه الاخير في جنازة يحضرها المئات وربما الالاف . يتحدث الوعاظ ومنهم زميل له على مدى سنين بأنه كان آخر ما طلبه منه الاستاذ عمر قبل أيام “أن يبقوا على قبره ساعة بعد دفنه.” بقى المشيعون ساعة بعد دفن جثمان الاستاذ عمر يدعون له بالرحمة والمغفرة. رحم الله الاستاذ عمر.
نرشح لك: مذكرات طفل ريفي (6).. ست البنات