الإجابة تبدو بديهية، لا بد أن هناك مؤلفًا أو أكثر يوجد خلف هذه السطور، ولكن الواقع يخالف ذلك، فعندما طرحت إحدى دور النشر الكبرى هذا السؤال على القراء، تلقت أغرب أنواع الإجابات، أنا شخصيا عندما كنت صغيرًا وشغوفًا بالقراءة لم أكن أعتقد أن هناك كتابًا للروايات، بدت كأنها إحدى هبات الطبيعة، كالماء والشمس والهواء، إحدى ضروريات الحياة، خلقها الله ضمن مفردات الكون.
وحين كنت أذهب لمكتبة «عم طلعت» للكتب القديمة، كان يرص الروايات فى صف طويل دون أن يظهر لها أى عنوان، ولم يكن العنوان ولا اسم المؤلف يهمّاننى كثيرًا، كنت أختار فقط أضخم الروايات وأكثرها فى عدد الصفحات حتى أقضى معها وقتا أطول، ويا سلام.. لو كانت حروفها المطبوعة صغيرة أيضًا، وحتى الآن لم تتغير عاداتى كثيرًا، أدركت فقط أن هناك كتابًا يجلسون الساعات والأيام وربما السنوات وهم يؤلفون هذه الكتب، وأدركت أيضًا أن المواهب قليلة وعدد الروايات كثيرة، وأن هناك كتبًا ضخمة لا يمكن لأشخاص أن يكتبوها بمفردهم، فهل هناك من يشاركهم بالفعل فى الكتابة؟
يحدث هذا بشكل طبيعى فى المسلسلات التليفزيونية ذات الحلقات الممتدة، هناك دائما ورشة عمل من كتاب الدراما تقوم بكتابة أجزاء مختلفة من المسلسل، وهناك رئيس للورشة يقوم بتجميع هذه الأجزاء فى سياق واحد، أى أن المؤلف الذى نرى اسمه على التتر ليس هو الأوحد، وليست هذه رؤيته ولا إبداعه وحده، وقد أحزننى بعض الشىء أن أعرف أن المؤلف التيلفزيونى العظيم أسامة أنور عكاشة كانت له ورشة، وأن مسلسلاته الأخيرة كانت تبدو مختلفة لهذا السبب، عمومًا يبدو هذا مقبولا فى الدراما التليفزيونية، فهى صناعة يشارك فيها الكثيرون، والإبداع فيها مجرد جزء تكمله أجزاء أخرى مثل الإخراج والتمثيل، ولكن المفترض أن العمل الروائى هو إبداع ذاتى قائم بنفسه، لا يحتاج إلى شريك آخر، ولكن فى الاستفتاء الذى أشرت إليه، قال 56% من القراء فقط إن الكتاب هم الذين يؤلفون الروايات، ربما لأن دور النشر تحرص على إنتاج كم هائل من الروايات دون أن يوجد عدد كاف من الكتاب الموهوبين، لذلك يتم تصنيع عدد كبير منها، وواضح أن هناك ورشًا أخرى بداخلها لتصنيع هذه الروايات، 21% قالوا إنه «الكاتب الشبح»، كناية عن هؤلاء الذين يكتبون من وراء الستار دون أن تظهر أسماؤهم، وفى مصر عدد من كبار الكتاب، خصوصًا فى مجال الصحافة، ممن يستعينون بالكتاب الأشباح، ولا داعى لذكر أسمائهم، لأن هذا يدخل فى عداد الفضائح، 9.5% يقولون إنهم لا يعرفون أن لها كاتبا، نفس إجابتى الأولى، لأننى أعتقد أن الكتابة أكبر من الكاتب، لذلك فالرواية الجيدة تفرض نفسها بغض النظر عن مؤلفها، تترك شخصياتها الورق وتكتسب مسحة من حقيقة الحياة، من منا يعرف مؤلف «دراكيولا» أو يتصور حتى أنه مجرد شخصية فى رواية، ومن منا يدرك أن السيد أحمد عبد الجواد وزوجته أمينة ليسا حقيقيين ويعيشان بيننا، وليسا من إبداع نجيب محفوظ؟
تتنوع إجابات القراء بعد ذلك، البعض قال إنهم مؤلفون قادمون من كواكب أخرى، يروننا أفضل مما نرى أنفسنا، يرون حياتنا العشوائية أكثر تنظيما، وألواننا الباهتة أكثر إتقانا، ويقول البعض الآخر يقول إن مؤلفى الروايات هم عملاء من الحكومة، وهذا بالذات يبدو احتمالا بعيدًا، فلو كان فى مقدورهم ذلك فمن الذى يكتب كل هذه الخطب الرسمية المملة، وينشر تلك القصص الخائبة التى تغطى بها الحكومة أخطاءها.
ولكن كتابة الرواية هى رغبة مكبوتة فى نفوس الكثيرين، من أجل هذا تقام فى أمريكا كل عام مسابقة قومية لكتابة الرواية تحت أنظار عدسات التليفزيون، ففى شهر نوفمبر يتشارك الآلاف فى كتابة روايات كل واحدة مكونة من 50 ألف كلمة فى ثلاثين يومًا فقط، بدأتها الكاتبة كريس باتى فى عام 1990 لتشجيع كل الذين يرغبون فى كتابة الروايات وإثبات أن هناك كتابا حقيقيين، لم ينتج عن المسابقة عدة روايات جيدة فقط، ولكنها علمت الجميع كيف يستخدمون وقتهم بشكل أفضل، فعلى كل واحد أن يكتب 1700 كلمة يوميا، فى نحو ساعتين فى اليوم وستين ساعة فى الشهر، وإذا علمنا أن الشهر يحتوى على 720 ساعة، فإن هذا يعد وقتًا ليس بالكثير، فالوقت غير مرن، وعلى الكاتب أن يطارده دائما، ويضع أجزاء الوقت المقتطع بجانب بعضها البعض.
وعلينا أن نتذكر تجربة الكاتبة تونى موريسون التى كانت ربة منزل تقوم بتربية طفلين، ومع ذلك كانت تقتطع قليلا من وقتها قبل النوم حتى تكتب رواياتها، ولكن بالطبع ليس للجميع موهبة هذه الكاتبة الفائزة بنوبل، ولكن المغزى هنا هو انتزاع الوقت المتجزئ، ليس على أحد أن ينتظر حتى تتاح له الساعتان كاملتين، فربما لن تأتى، ومن المهم هو إسكات الناقد الراقد بداخلنا وبدأ الكتابة، لأن هذا الناقد قد يشل اليد ويضيع الوقت ويجعل الكاتب يجلس صامتا لساعات الطويلة، على أى حال إنها تجربة على كل الذين يعشقون الرواية أن يقوموا بها، لعلها تثبت أن الكتاب هم ما زالوا أرباب هذا الفن وليس الأشباح أو القادمون من الفضاء.
نقلًا عن موقع “التحرير”